حوار مثير (ج3): الذكاء والتلاعب بالكلمات لم ولن يلغي التعديات

رغم حديث الرب يسوع عن عطية الله، وعن الماء الذي يعطيه للحياة الأبدية، أي رغم حديث الرب عن الروحانيات، بقيت المرأة محصورة في فكرها بأمور الحياة اليومية وحاجات الجسد الأرضية والملحَّة
18 نوفمبر 2016 - 21:58 بتوقيت القدس

يوحنا: 16:4 – 19 "قالَ لَهَا يَسُوعُ: اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى ههُنَا. 17أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالتْ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: حَسَنًا قُلْتِ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ، 18لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ. 19قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!

يسوع يتحدث مع السامرية عند بئر يعقوب

رغم حديث الرب يسوع عن عطية الله، وعن الماء الذي يعطيه للحياة الأبدية، أي رغم حديث الرب عن الروحانيات، بقيت المرأة محصورة في فكرها بأمور الحياة اليومية وحاجات الجسد الأرضية والملحَّة، فهي تريد الهروب من واقعها، ولا تعاود المجيء إلى البئر للشرب، لذلك طلبت أخيراً ماء الحياة من الرب يسوع، ليس من أجل الخلاص والتوبة والحياة الأبدية، بل كما قالت: "لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي".

* كانت المرأة تبحث عن راحة الجسد: "لا أعطش". ولم تتغيّر الطبيعة البشريّة حتّى اليوم. فكلنا نبحث عن راحة ومتعة الجسد الوقتيّة حتّى على حساب حياتنا الأبديّة.

* وكانت تتلهّف للحصول على راحة الفكر والمشاعر: "لا آتي إلى هنا"، وذلك هرباً من الإحراج وأحاديث الناس عليها وتعييرهم لها بسبب أسلوب حياتها، وكأنهم كانوا أفضل منها. مشكلة المرأة أنها كانت تمارس الخطيّة بشكل مكشوف، وكانت تعيش في مجتمع متديّن يعيش في مستنقع الخطيّة ولكنه يمارس التّقيّة واحتراف لعبة التّدين للتّستر على خطاياهم ورجاساتهم وعيوبهم. وما يزال النّاس يمارسون لعبة الدّين والتّقاليد ولبس صورة التّقوى لإخفاء حقيقة نفوسهم وشرورهم وتعدّياته، أي خطاياهم الكثيرة ضد الله وضد وصايا الله وضد خليقة الله.

* المرأة السامرية نموذج صادق للأفراد الذين يعيشون بالخطية، ويتلذذون بالخطية، ولكنهم يريدون التحرر من بعض نتائجها العامة.

* المرأة السامرية نموذج للإنسان الأناني الذي يرى عالمه الخاص فقط.

بعد أن رأى الرب عنادها في الحديث عن حاجات الجسد، وإصرارها في توجيه الكلام إلى الأمور المادية، والتستر على حقيقتها الروحية المخجلة، لجأ الرب يسوع إلى مخاطبة إنسانها الداخلي بحكمة فائقة أدّت إلى اعترافها أخيراً بجهلها وإعلان شوقها لمجيء المسيا المنتظر.

أولاً: طلب الرّب يسوع المسيح: "اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى ههُنَا" (الآية 16). أرادت المرأة أن تحصل على الماء الحي لكي لا تعود إلى البئر من جديد لتستقي. وفي جوابه، لم يعترض الرب يسوع على طلبها، ولم يرفض هذا الطلب، ولكنه في المقابل أراد أن يقود المرأة إلى التوبة الحقيقية قبل أن يعطيها الخلاص، والتوبة تحتاج إلى أن يدرك الإنسان عمق وبشاعة الخطية في حياته، حتى تكون توبته حقيقية ومن كل القلب.
نفشل كثيراً في قيادة الناس للتوبة لأننا لا نتحدث كفاية عن الخطية وطرق ارتكابها وأشكالها وبشاعتها. فالحديث عن الخطية بسرعة وبشكل عام لن يؤثر في السامعين، أما الحديث بالتفصيل وبأمثلة عملية من واقع الحياة يكشف الإنسان على حقيقته ويضعه تحت تبكيت كلمة الله، مما يؤدي إلى اشتياقه للتوبة والخلاص والحصول على غفران الخطايا. وللأسف الشّديد، لا يدرك معظم الناس حقيقة الخطية في حياتهم، وبالتالي لا يطلبون غفران الله.

بكل تأكيد، كان الرب يسوع عالماً بكل شيء عن المرأة السامرية، لذلك عندما قال لها: "اذهبي وادعي زوجك" فإنه أراد أن يضعها أمام حقيقة نفسها، فهو الله الذي يعلم أنها تعيش الآن في الخطية، فهي امرأة زانية وتعاشر رجلاً ليس زوجها، أي أن علاقتها مع هذا الرجل تخالف حق الله وشرع الله.

في سؤاله، وجه الرب يسوع سهماً روحياً خارقاً إلى قلب وعقل ووجدان المرأة، وهي بالتأكيد شعرت بقشعريرة وانفعال شديد عند سماعها لطلب الرب يسوع، لذلك أسرعت في إجابتها بالنفي والتضليل لتخفي حقيقة نفسها.

ثانياً: جواب المرأة: "أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالتْ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ". (الآية 17أ). لم يكن للمرأة زوجاً حقيقياً لكي تدعوه للحضور معها إلى البئر، ولأن الرجل الذي كانت تعيش معه كان غريباً عنها، فهو مجرد رجل زانٍ وفاسد مثلها، ولأنها لم ترد في هذه اللحظة أن تعترف بخطاياها وحقيقة حالتها الروحية والاجتماعية المزرية، أجابت الرب بهذه بجملة مرسلة وفضفاضة: "لَيْسَ لِي زَوْجٌ".

في الواقع أن ما قالته المرأة كان صحيحاً، فهي غير متزوجة شرعاً، مع أنها كانت زانية وتمارس الجنس مع رجلٍ زانٍ مثلها. ولكن جوابها أيضاً لا يظهر إن كانت قد تزوجت في الماضي، ولا يظهر أيضاً كيف تعيش في الحاضر. أي أن المرأة بقيت مصرة على لعبة الذكاء والهروب من مواجهة الواقع.

ثالثاً: الرب يسوع يكشف حقيقة المرأة بتوضيح جوابها له: قال لها الرب يسوع في البداية: "حَسَنًا قُلْتِ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ" (الآية 17 ب) فهي على الأقل لم تكذب وتدَّع أن الرجل الذي تعيش معه كان زوجها، فالمسيح هنا امتدح الشق الصحيح في جوابها، مع أن جوابها كان ناقصاً حيث أنها أخفت ماضيها وحاضرها، لذلك قام الرب يسوع بكشف ما أخفته عنه عندما أكمل جملته قائلاً لها: "لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ".

هز الرب يسوع هنا كيان المرأة من الأعماق وذلك برفعه الحجاب والستار عن ماضيها المخجل وحاضرها المزري في نفس الوقت، كشف ماضيها عندما قال لها: "كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ" فالمرأة خبيرة بالرجال وممارسة الجنس وبالحياة الزوجية، فقد تزوجت خمس مرات في السابق، ولأنها اعتادت على الحياة الزوجية، كذلك لأنها لم تجد زوجاً سادساً لتعيش معه بعد طلاقها أو انفصالها عن الزوج الخامس. لجأت إلى الخطية والزنى لتلبية شهوات جسدها.

يعيش الناس بشكلٍ عام بوجهين أو شخصيتين منفصلتين تماماً عن بعضهما البعض، فهناك الشخصية الظاهرة والمعروفة للناس، وهناك الشخصية الحقيقية التي يعرفها الشخص فقط، ومع أن عبارة "الشخص فقط" غير صحيحة نهائياً، لأن الله يعرف كل إنسان على حقيقته، ولكن ربما أن بعض الخطاة أصبح لهم ضميراً ميتاً ويمارسون الخطية يومياً وبشكلٍ طبيعي غير مدركين أن كل شيء عنهم مكشوف أمام الله.

* عندما يسألنا الناس عن أمور حياتنا المختلفة، هل نضللهم بذكر جزء أو جانب من الحقيقة ونخفي جوهر الحقيقة عنهم.
* هل نعيش أمام الناس بطريقة مزيفة لا تبين حقيقة أنفسنا، مع علمنا التام بأن لا شيء خفي أمام الله.
* قال الرب يسوع: "لَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ، وَلاَ خَفِيٌّ لَنْ يُعْرَفَ" (متى 26:10)
* هل نعلن للرب عن خفايا حياتنا وممارساتنا الردية ونتوب عن خطايانا.
* هل نعيش حياة مقدسة ومكرسة بالكامل للرب.
* هل نقبل أن تستمر حياتنا الظاهرية مخالفة لحياتنا الحقيقية المكشوفة لله.

أرادت السامرية أن تخفي واقعها الشرير والخاطئ، ولكن الرب يسوع كشف لها الحق بكامله، فهو الله الذي يعرف كل شيء.

ولكن كشف الحقيقة لا يقود دائماً إلى التوبة والاعتراف بالخطية والعودة لله. فكثيرون سمعوا وعرفوا الحق، ولربما أنهم كانوا تحت توبيخ أو تبكيت لفترة زمنية معينة، ومع ذلك كابروا وعاندوا وهربوا من دعوة الرب لهم.

والمرأة السامرية، وبالرغم من أنها سمعت الحق ووجدت نفسها وجهاً لوجه مع خطاياها، إلا أنها أصرت على لعبة الذكاء والحكمة الأرضية بأسلوب الهروب واللف والدوران الذي يأخذ شكل الورع والتدين الخارجي والمعرفة العقلية لحقائق تاريخية. لذلك نراها تلجأ إلى تغيير الموضوع بالبدء في حوار ديني وجدلي مع شخص الرب يسوع.

رابعاً: المرأة تتستر على خطاياها في الحديث بأمور دينية: كشف الرب يسوع للمرأة معرفته بحقيقة خطاياها، ولكنها لم تظهر أية مظهر من مظاهر الأسف والندم.

قمت بالأمس مع اثنين من الأخوة بزيارة إحدى العائلات في مدينة بيت ساحور في فلسطين، وكان الحضور في بيتهم حوالي عشرة أشخاص. وما أن دخلنا البيت، وبسبب معرفتهم لي كقسيس، أخذوا يتحدّثون معي في الأمور "ألدّينيّة" كما أطلقوا عليها، والغريب والمثير في الأمر أن معظمهم ناقشوا وجادلوا، ولم يحاول أي شخص أن يسأل عن كيفية خلاص نفسه أو الطريق الصحيح لترتيب علاقته الشخصية مع الله.

في العودة إلى يوحنا 19:4 نجد أن النتيجة الوحيدة التي خرجت بها المرأة بعد أن كشف لها الرب يسوع أنه يعرف حقيقتها وحقيقة خطاياها، هي اعترافها بأنه نبي. وكما في الحياة اليوم، قد يقول لنا الناس، شكلك متدين، أو شكلك تحب أن تحكي في الدين، أو شكلك تعرف الإنجيل، وبعد ذلك يغيرون الموضوع رأساً على عقب هروباً من مواجهة أنفسهم في نور الله الكاشف لأعماق قلوبهم.

أدركت المرأة حقيقة معرفة الرّب يسوع المسيح الفائقة، لذلك أطلقت المرأة على الرب لقب نبي، ولكنها لجأت رأساً إلى تغيير اتجاه الحوار. هذا ما يمكننا أن نطلق عليه معرفة عقلية، أو إيمان عقلي، فهي الآن تعترف بأن من كان يكلّمها كان أكثر من إنسان عادي، فهو في نظرها نبي، ولكن هذه المعرفة العقلية لم تدفعها لاتخاذ خطوة عملية مثل سؤالها له عن كيفية التوبة والتحرر من قيود الخطية التي تكبلها، ولكنها بدأت في الحديث عن القضايا الدينية. وهذا يعكس حقيقة الطبيعة البشرية الهاربة من الله منذ آدم وقايين وحتى اليوم. الإنسان يحاور ويناقش ويجادل، ولكنه يرفض الخضوع لمشيئة الله.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا