يوحنا 1:4-12 "فَلَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تَلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا، 2مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تَلاَمِيذُهُ، 3تَرَكَ الْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضًا إِلَى الْجَلِيلِ. 4وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ. 5فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ الضَّيْعَةِ الَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ابْنِهِ. 6وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. 7فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَعْطِينِي لأَشْرَبَ. 8لأَنَّ تَلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَامًا. 9فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟ لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ. 10أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا. 11قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟ 12أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟".
يعتبر الحوار بين النّاس أحد أهم مظاهر الحياة، فالنّاس تتحاور مباشرة أو بالرسائل البريدية والإلكترونية أو عبر الهاتف أو حتى جهاز التلفزة، ومع ذلك يبقى الحوار عن طريق اللقاء الشخصي المباشر أقوى وأهم من جميع طرق الحوار بين النّاس.
وفي كثير من الأحاديث التي تجري بين الأفراد، يحدث أن نتحدث مع غيرنا من النّاس دون أن يفهم النّاس كلامنا، لأن مقاصدنا تكون غير مقاصدهم، ونوايانا غير نواياهم، وأفكارنا غير أفكارهم. والحوار أو الحديث غير المفهوم بين النّاس يدور في أمور مختلفة، فأنت قد تتحدث مع جيرانك بقصد إقامة علاقة طيبة معهم، ولكنهم يظنون أنك تريد الحصول على منفعة معينة، أو أن لك مصلحة عندهم.
وتدل الخبرة العملية على أن أصعب أنواع الحوار مع النّاس هو الحديث في الأمور الروحية، وخصوصاً في شرقنا العربي. وقد واجه النّاس وما يزالون يواجهون صعوبات هائلة في إقامة حوار روحي أو كما يقول النّاس "حوار ديني"، بحيث يستمر الحوار بطريقة صحيحة ومفهومة، وبدون غضب وعصبيّة، وحتّى التّعدي على المحاور بالكلام أو حتّى بالأيدي، أي باستخدام العنف.
في أيام الرّب يسوع المسيح له المجد، لم تكن هنالك وسائل اتصال إلكترونية كما لدينا اليوم، وكان الحوار الشخصي هو السائد، بالإضافة إلى الرسائل المكتوبة والتي كانت تحتاج إلى أسابيع أو أشهر لوصولها من بلد إلى آخر. كذلك كان يتم الاتصال بين النّاس بواسطة إرسال سفير أو مندوب إلى الآخرين من أجل إيصال رسالة معينة. ومن يتأمل في سيرة رب المجد يسوع، يكتشف سريعاً أنّه في معظم الحالات التي خاطب بها النّاس، كان يعمل مباشرة، أي عن طريق اللقاء الشخصي. وفي حالات قليلة تحاور عبر سفير أو رسل، مثلما حصل عندما أرسل الرّب يسوع خبراً ليوحنا المعمدان في السجن بأنّه هو المسيح المنتظر (راجع لوقا 18:7-21).
كان الرّب يسوع له المجد رجل حوار.
- تحدث مع الفقراء والأغنياء.
- تحدث مع رجال الدين من كتبة وفريسيين.
- تحدث مع قادة سياسيين مثل الملك هيرودس والوالي الروماني بيلاطس.
- والأهم من كل هذا: أنّه تحدث مع الخطاة والأشرار والمنبوذين وأظهر لهم محبة الله ودعاهم إلى التوبة والخلاص وقبول عطية الله المتمثلة في الحياة الأبدية.
في يوحنا 7:4-26 نجد حواراً عجيباً جرى بين الرّب يسوع وامرأة سامرية، هذا الحوار الذي تدرج من الحديث عن العطش وشرب الماء العادي، إلى الحديث عن ماء الحياة، ثم حياة المرأة الشخصية، وبعد ذلك عن الجدل الصاخب الذي كان منتشراً بين اليهود والسامريين عن مكان عبادة الله. بعد ذلك تم الحديث عن طبيعة الله، وانتهى بكشف الرّب يسوع لهويته للمرأة السّامرية بأنّه هو المسيح المنتظر. في هذا الحوار نجد أن الرّب يسوع له المجد هو الذي بادر إلى الحديث، ونجد سوء فهم مقاصده حتى نهاية الحوار. فكثيراً ما حاور الرّب يسوع جموع النّاس، بمن فيهم تلاميذه، وفهموه خطأ، أو فسروا كلامه بطريقة عجيبة وغريبة لم تكن حتى في فكره.
- فعندما تحدث عن خمير الفريسيين، ظن تلاميذه أنّه يتحدث عن الخبز والطعام، مع أنّه كان يقصد تعاليم الفريسيين ورياءهم.
- وعندما تحدث عن حمل الصليب يومياً، ظن النّاس، وما يزالون يظنون حتى اليوم، أنّه يتحدث عن التزين بلبس صليب ذهبي أو فضي أو خشبي، مع أنّه كان يتحدث عن استعداد المؤمن لتحمل الاضطهاد والموت.
- وعندما تحدث عن نقض الهيكل، ظن النّاس أنّه يتحدث عن هيكل الله في أوروشليم، مع أنّه كان يتحدث عن موت جسده على الصّليب .
فما أسهل أن يتم سوء فهم الآخرين وإطلاق الأحكام عليهم، حتى قبل سؤالهم عن مقاصدهم ونواياهم.
في حوار الرّب يسوع مع المرأة السّامرية، أعلن رب المجد حقائق مجيدة عن شخصه القدوس، وعن شخص الآب، وعن الطبيعة البشرية الساقطة.
أولاً: كلمات الرّب: طلب الرّب يسوع في البداية أن تعطيه المرأة ماءً ليشرب حين قال لها: "أعطني لأشرب". لقد جاءت المرأة إلى البئر في وسط النهار، تحاشياً من سماع تعليقات لاذعة وذلك لأنّها كانت مرفوضة من بقية النّساء، وكان همها الوحيد هو الحصول على ماءٍ للشرب. أي أنّها في اللحظة التي التقت بها بهذا الشخص الغريب عنها عند البئر، لم تكن تفكر إلا بالحصول على الماء والعودة بأسرع وقتٍ ممكن إلى بيتها. عرف الرّب يسوع له المجد ما يدور في ذهنها، لذلك خاطبها باللغة التي تفهمها: "أعطني لأشرب"، وهنا نلاحظ:
1. أن الرّب يسوع هو الذي بادر إلى الحوار، لذلك علينا أن لا نتوقع أن يأتي النّاس إلينا لسؤالنا عن إيماننا وعن الله وعن الإنجيل، مع أن ذلك قد يحدث، ولكن بشكلٍ نادر جداً. علينا كمؤمنين أن نبادر بالحديث مع النّاس كما بادر ربّنا يسوع المسيح.
2. أن الرّب يسوع بدأ الحوار بالشيء المشترك بينه وبين المرأة، وهو الحاجة البشرية والإنسانية جداً لشرب الماء. يجب أن نتذكر دائماً أن الرّب يسوع كان في أيام تجسده على الأرض واحداً مثل بقية النّاس، أي كان إنساناً كاملاً مع أنّه في نفس الوقت الله الأزلي القدير، ولذلك فقد اختبر في جسده جميع الحاجات البشرية مثل التعب والجوع والعطش والغضب والألم والحزن وغيرها من جوانب حياة النّاس. وبما أن النّاس يشتركون في حاجاتهم، أي هنالك قواسم مشتركة بينهم، لذلك بادر رب المجد بحواره مع السّامرية بالإشارة إلى قاسم مشترك بينهما ألا وهو الحاجة إلى ماءٍ للشرب.
ما أسهل أن نبدأ حوارنا مع النّاس بما يفرق وليس بما يجمع. فمثلاً نحن نعرف أن النّاس يؤمنون بعقيدة أو طقس أو فكرة معينة، ونحن لا نؤمن بتلك العقيدة أو الفكرة، لذلك نبدأ حوارنا بإظهار الفرق بيننا وبينهم، وهذا الأسلوب يؤدي عادة إلى النفور وردة فعل قوية تضع الشخص الثاني في موقف الدفاع عن عقيدته، وبالتالي نخسر الحوار ونخسر الشخص المحاور أيضاً.
ثانياً: رد المرأة: في جواب المرأة السّامرية على طلب الرّب يسوع، أشارت إلى الفوارق بينها وبينه حين قالت له: "أنت يهودي وأنا سامرية". نجد هنا شيئاً يتكرر كثيراً في خدمة الكنيسة في عالم اليوم. فالنّاس يعرفون أننا نختلف عنهم، ومع أننا نحاول أن نقتدي بشخص الرّب يسوع في الحديث أولاً عن الأشياء التي تجمعنا بالنّاس، فأنّهم هم الذين يبادرون في الغالب إلى إبراز الفوارق بيننا وبينهم، والسبب ببساطة هو اختلاف الروح بين الطرفين، والمواقف العدائية المسبقة التي يتخذها النّاس ضد المؤمنين بشخص الرّب يسوع له المجد.
لا بد هنا من التوضيح أن كثيرين من النّاس لا يقصدون أو لا يدركون بأن عداءهم هو ضد مؤمنين بشخص الرّب يسوع، بل يفكرون بأن عداءهم موجه ضد أشخاص مخطئين وخارجين عن المألوف والمعروف من طقوس وعقائد. فقد نجح الشّيطان في تشويه الحقائق، واصبح من يتخذ مواقف سلبية من المؤمنين الحقيقيين المولودين ولادة ثانية، أصبح مثل هؤلاء النّاس يفكرون بأن ما يقومون به صحيح ومبرر، فهم يعتقدون بأنّهم يواجهون أعداء الكنيسة التاريخية والخارجين عن الإيمان الأرثوذكسي الصحيح، أي أنّهم يعتقدون أنّهم يواجهون أصحاب بدع وهرطقات ومبادئ هدامة، غير مدركين أنّهم يواجهون المؤمنين الحقيقيين.
ثالثاً: الرّب يسوع يغير اتجاه الحوار: لم يعلق الرّب على قول المرأة عن الصراع والخلاف بين اليهود والسامريين، لأن الحديث في مثل هذا الأمر سيكون مضيعة للوقت، وسيثير النزعات الدينية والتاريخية والسياسية. لذلك وجه أنظار المرأة إلى جوهر الحاجة البشرية الأولى، وهو حاجتها وحاجتنا نحن أيضاً إلى الحصول على ماء الحياة.
يقول المثل الشعبي "الشّيطان شاطر"، أي أنّ إبليس حكيم وذكي ويعرف كيف يضلل النّاس ويثير بينهم النزاع والصراع. وكثيراً ما ينخدع حتى المؤمنين ويجدون أنفسهم وقد سقطوا في فخ الجدل الحاد مع النّاس بدل الحوار الهادئ. صحيح أننا أحياناً نجد أنفسنا مضطرين إلى توبيخ النّاس والوقوف بحزم أمام تيار الشر الجارف، ومع ذلك علينا أن نحرص بشدة على عدم خسارة النّاس الذين نحاورهم.
وهكذا عندما لجأت المرأة في ردها على طلب يسوع إلى إظهار حقيقة العداء المزمن والمتأصل بين اليهود والسامريين، لجأ الرّب يسوع إلى تغيير اتجاه الحوار من "الماء العادي" إلى "ماء الحياة". أي أنّه غيّر موضوع الحديث من الماديات إلى الحديث عن الروحانيات، ومن الحديث عن الحاجة اليومية المتكررة والزائلة، إلى الحديث عن الحاجة الأزلية والباقية.
والسؤال هنا: ماذا قصد الرّب يسوع بعبارة "ماء الحياة"؟ الجواب ببساطة هو الخلاص وكل ما يرتبط به من امتلاء من الروح القدس، والحياة كل يوم في العالم بحسب كلمته المقدّسة، وحياة أبدية أساسها قبول الرّب يسوع. أي أن ماء الحياة هو العطية الروحية العظيمة والمجانية التي يريد الله أن يهبها لكل من يقبلها ويطلبها. يريد الله أن نعرف كلمته، وأن ننال خلاصه، وأن نمتلئ بروحه، وأن نعيش إلى الأبد في ملكوت الله. وهذه جميعاً تشكل معاً ماء الحياة الذي يعطيه لنا الرّب. وهذا الخلاص لا يعطيه ولا يقدمه إلا الرّب يسوع، وهو عطاء مجاني لكل من يريد. نقرأ في رؤيا 6:21 قول الرّب يسوع له المجد: "أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية. أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً".
يحتاج جميع النّاس إلى ماء الحياة، وبدون ماء الحياة، أي بدون الإنجيل والخلاص والروح القدس، لا يوجد رجاء لأي إنسان. ولكن الشّيطان نجح في تشتيت فكر النّاس وقيادتهم إلى تعاليم وديانات وعقائد يظن النّاس أنّهم يجدون فيها ماء الحياة، مع أنّها في الواقع تقودهم إلى الهلاك والعذاب الأبدي.