إشارات إلى العهد القديم – ثالثا: الموعظة على الجبل

سبق لي أن ذكرت أنّ متعة البحث في الكتاب المقدَّس لا تضاهيها متعة، بحسب ‏ما بحثت في العلوم والأخبار. فأستهلّ هذا القسم من المقالة بقراءة ما ورد في ‏العهد الجديد من إشارات إلى العهد القديم
15 سبتمبر 2015 - 22:54 بتوقيت القدس

سبق لي أن ذكرت أنّ متعة البحث في الكتاب المقدَّس لا تضاهيها متعة، بحسب ‏ما بحثت في العلوم والأخبار. فأستهلّ هذا القسم من المقالة بقراءة ما ورد في ‏العهد الجديد من إشارات إلى العهد القديم في الأصحاح الخامس من الإنجيل ‏بتدوين متّى وهو الأصحاح الشهير بالتطويبات التسع (1) التي أعلنها الرب ‏يسوع في موعظته الشهيرة على الجبل المعروف بجبل التطويبات (2) وهذه ‏الموعظة 1. لم يسبق إليها واعظ قبل يسوع المسيح 2. لم تصل إلى مستواها أيّة ‏موعظة عبر التاريخ لا قبل ميلاد المسيح ولا بعد صعوده. ففيها الصيغة الكاملة ‏للمحبة وسائر الفضائل الإنسانية بأرقى مستوى.‏

طوبى للحزانى وللودعاء وللأنقياء القلب

إليك ثلاثًا من التطويبات؛ ففي الآية: {طوبى للحزانى لأنّهم يَتَعَزَّون}+ متّى 5: 2 ‏إشارة إلى أشعياء 61: 2 {لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِين} وفي الآية التي بعدها: {طوبى ‏للودعاء لأنهم يرثون الارض} إشارة إلى المزمور 36: 11 {لا تأتِني رِجْلُ ‏الكِبرياء...} فالوداعة نقيضة الكبرياء. وفي الآية: {طوبى للأنقياء القلب لأنهم ‏يعاينون الله} إشارة إلى المزمور 24: 4 {الطَّاهِرُ اليَدَيْنِ، والنَّقِيُّ القَلب... يَحْمِلُ ‏بَرَكَةً مِنْ عِندِ الرَّبّ، وبِرًّا مِنْ إِلهِ خَلاصِه} والملاحَظ أنّ لكل تطويبة من ‏التطويبات سببًا، لم يقل المسيح لأحد "طوبى" بدون سبب، إنما يوجد مقابل ‏روحي أمام الحزن: العزاء. وأمام الوداعة: ميراث الأرض. وأمام نقاء القلب: ‏معاينة الله. وكل مقابل مكافأة من الله. أمّا الأبعاد الروحيّة لهذه التطويبات فيجدها ‏القارئ-ة في تفسير الكتاب المقدّس وفي آراء آباء الكنيسة القدامى، لأن هذه ‏المقالة معنيّة بالإشارة وبالتعليق عليها أحيانًا وليس التفسير.

كنيسة التطويبات
كنيسة التطويبات
بعدسة LINGA

كنيسة جبل التطويبات

قد سمعتم أنه قيل:... وأمّا أنا فأقول لكم:‏
قول المسيح {قد سمعتم} يدل على أنّ السّامعين مطّلعون على أسفار الناموس ‏وسائر أسفار الأنبياء ومدركون تاليًا إشارات المسيح إليها. و"قد" في اللغة حرف ‏تأكيد أو تحقيق إذا سبق الفعل الماضي. بينما يُفيد التقليل أو التَّوقُّع أو الشّكّ أو ‏احتمال الوقوع إذا سبق الفعل المضارع. فإذا وصلنا إلى قوله: {قد سمعتم أنه قيل ‏للقدماء: لا تقتل، ومَن قتل يكون مستوجب الحكم. وأمّا أنا فأقول لكم إنّ كل من ‏يغضب على أخيهِ باطلًا يكون مستوجب الحُكم. ومن قال لأخيهِ: رَقا، يكون ‏مستوجب المجمع. ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم}+ متّى 5: 21-‏‏22 نجد إشارة إلى سفر الخروج 20: 13 ونجد تأكيدًا عليها في سفر التثنية 5: ‏‏17 ومعنى "رقا" فارغ الرأس، بلا عقل. وهي كلمة آرامية.‏

وهنا علّق الخوري يوسف داود، أحد مترجمي الكتاب المقدَّس إلى العربية، قائلًا ‏في هامش ترجمة الأصحاح: (إنّ المسيح جاء ليُنجز جميع الرموز والنبوّات ويُتمّ ‏ما كان ناقصًا في الناموس) وقول الخوري (ويُتمّ ما كان ناقصًا) مستند قطعًا ‏على قول المسيح: {لا تَظُنّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأنبياءَ. مَا جئتُ ‏لأنقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ}+ متّى 5: 17‏

وسأضرب مثالًا آخر، من هذا الأصحاح، على الوصول إلى درجة الكمال في ‏الناموس بالمسيح يسوع كقوله: {27 قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تَزْنِ. 28 وأمّا ‏أنا فأقول لكم: إنّ كلّ مَن ينظر الى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه} فليس ‏فعل الزنا وحده خطيئة، إنما التفكير في فعل الزنا خطيئة أيضًا.‏

فالسيد المسيح عالج الخطيئة باقتلاعها من جذورها؛ إذ نهى عن الغضب لأن ‏القتل ثمرة الغضب. ونهى عن النظر باشتهاء إلى المرأة، غير الزوجة، لأن ‏الزنا، سواء بالفعل وبالقلب، ثمرة الاشتهاء.‏

العظة على الجبل

العِظة على الجبل

وقفة ما بين قَسَم الإنسان وقَسَم الله ‏
ما زلت أقرأ في متّى\ الأصحاح الخامس، حتّى وصلت إلى قول المسيح: {33 ‏أيضًا سمعتم أنه قيل للقدماء:لا تحنث بل أوفِ للرب أقسامك. 34 وأمّا أنا فأقول ‏لكم: لا تحلفوا البتّة... 37 بل ليكُنْ كلامُكم: نعم نعم لا لا. وما زاد على ذلك فهو ‏من الشّرّير} فأوّلًا أشار السيد المسيح في موضوع القَسَم إلى سِفر الخروج 20: ‏‏7 {لا تنطُقْ باٌسم الرب إلهك باطلًا لانّ الرب لا يبرئ من نطق باٌسمه باطلا} ‏المؤكَّد عليه في سِفر اللاويّين 19: 12 وفي التثنية 5: 11 ثمّ أكّد العهد الجديد ‏على قول المسيح في سِفر يعقوب 5: 12‏

وثانيًا؛ في الحديث عن القسم شجون، ومنها 1. قَسَم الإنسان؛ إذ رأيت الشارع، ‏في العراق وفي سائر البلدان المُعَرَّبة والمؤسلَمة، حافلًا بالقسم بالله لأتفه ‏الأسباب. وهذا من المحرَّمات في الكتاب المقدَّس؛ لأنّ الله، في رأيي، أعظم من ‏أن يُقسَم به بدون ضرورة قصوى، يحدّدها خدّام الله. ربّما التمس غيري العذر ‏لمن أقسم في مناسبات حسّاسة، كالشؤون القضائية في المحاكم وفي بعض ‏المحافل الدولية وفي أداء اليمين الدستورية وفي الحفاظ على شرف المهنة بعد ‏التخرج الأكاديمي.‏

لكنّي رأيتُ القَسَمَ بالله عبثًا في الشعر العربي وفي النثر، كقول قائل "والله، بالله، ‏تالله" كما سمِعت القسم في الأغاني العربية.‏

فكيف يخشى الله من يجعل القسم بالله لقمة سائغة في فمه، يلوكها في أيّ حوار مع ‏الصديق ومع الخصم ويتغنّى بها؟ وكيف يجرؤ المرء على إساءة استخدام أعظم ‏لفظة في الأبجدية العربية؟ عِلمًا أنّ كتبة اليهود، أي علماء كتابهم المقدَّس (وهو ‏أيضًا العهد القديم من الكتاب المقدَّس مسيحيًّا) والفقهاء، كانوا يتطلّعون إلى اسم ‏الله بوقار شديد، فلم يخاطروا بذكر اسمه "يهوه" لئلّا يخطئ الشخص في نطقه. ‏وكانوا، خلال حِقب نسخ الأسفار المقدسة، يمارسون طقسًا خاصًا عند كتابة اسم ‏الله؛ مِثالًا: غسل القلم قبل الكتابة به مباشرة. كما سمعت أحد الوُعّاظ المسيحيّين ‏يقول: صَنَعَ كتبةُ اليهود خَتْمًا خاصًّا بالكلمة التي تقابل "الله" في العِبرية، من ‏خشية الله وتعظيمًا لقدره.‏

‏2. قَسَم الله؛ إذ أقسم الله بذاته في الكتاب المقدّس ولم يقسم بغير ذاته إطلاقًا. ‏فأمامي في سِفر التكوين 22: 15-16 {ونادَى مَلاَكُ الرَّبِّ إِبْرَاهِيمَ ثانِيَةً مِنَ ‏السَّمَاءِ وقالَ: بِذاتِي أَقسَمْتُ يَقُولُ الرَّبُّ...} الذي استشهد به المزمور 105: 9 ‏والجدير ذِكره هو أنّ الله أقسم بذاته ولم يُقسِم بأيٍّ من مخلوقاته، لأنّ المخلوق ‏قطعًا دون الخالق منزلة. فالله أقسم بذاته إذ لا إله حيّ إلّاه ولا شيء أسمى منه. ‏أمّا الإنسان فيُقسم بالمقدَّس عنده، ما يفوق الإنسان منزلة وكرامة، وهو في الوقت ‏نفسه أعظم المخلوقات، فلا ينبغي له أن يُقسِم بما دون الله أنّى جاز له القسم. ‏

أمثلة أخرى على كمال المحبّة بالمسيح

يتّضح الكمال في كل فقرة نصّت على قول المسيح: {سمعتم أنه قِيل... وأمّا أنا ‏فأقول لكم...} وما زال الأصحاح الخامس حافلًا بهذه الآيات الخالدة؛ ففي متّى 5: ‏‏38 {سمعتم انه قيل: عَين بعَين وسِنّ بسِنّ. 39 وأمّا أنا فأقول لكم: لا تقاوموا ‏الشّرَّ بل مَن لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّلْ له الآخَر أيضا} وهنا علّق الخوري ‏يوسف داود قائلًا: (إنّ المفروض علينا قطعًا أن نحتمل بصبر مسيحي ما يصيبنا ‏من شتائم وإهانات، وألّا نحفظ الحقد في قلوبنا لننتقم، بل نكون مستعدِّين أن ‏نحتمل مصابًا أكثر. وأمّا ما يتبع بعد ذلك من تحويل الخدّ الآخر لمن يلطمنا ‏فليس هو على سبيل الفرض بل على سبيل المشورة، لأنّ المسيح نفسه وبولس ‏الرسول ما حَوَّلا الخدَّ لضاربيهما) فالقصد في قول المسيح "فحوِّلْ له الآخَر" هو: ‏حوّل الخلاف إلى ضفة المشورة والاستفهام والتفاهم. والدليل هو جواب المسيح ‏على خادم الكهنة الذي لطمه خلال المحاكمة الدينية: {إِنْ كنتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيًّا ‏فاشْهَدْ على الرَّدِيّ، وإِنْ حَسَنًا فلِمَاذا تَضْرِبُني؟}+ يوحنّا 18: 23‏

وقبل أن أختم بآية محبّة الأعداء؛ يسرّني أن أتوقف عند آية العطاء التي سبقتها ‏بقول المسيح: {مَنْ سَأَلَكَ فأَعْطِهِ، ومَنْ أَرادَ أنْ يَقتَرِضَ مِنكَ فلاَ تَرُدَّهُ}+ متّى 5: ‏‏42 لأنّ فيها إشارة إلى سِفر التثنية 15: 8 {بَلِ افْتَحْ يَدَكَ لَهُ وَأَقْرِضْهُ مِقدارَ مَا ‏يَحتاجُ إِلَيْهِ} وأمّا آية محبّة الأعداء الخالدة فقد نطق بها فمه المبارك بعد إشارته ‏إلى سِفر اللاويّين 19: 18 إذ قال المسيح: {سَمِعتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وتُبْغِضُ ‏عَدُوَّكَ. وأَمَّا أَنا فأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ...}+ متّى 5: 43-44 فأيّة محبّة ‏حقيقية، على الأرض وعبر التاريخ وعبر ثقافات العالم أجمع، وصلت إلى ‏مستوى هذه المحبّة؟ وأيّة ديانة غير المسيحيّة هي ديانة المحبّة؟ قلت، اقتداء ‏بالمثل الأعلى: طوبى لمن أحبّ خصومه وسامح أعداءه. وقد يلتمس القارئ-ة ‏العذر لي إذا ما قلت "بئس دُعاة المحبة الكذّابون وخَسِئَ المُراؤون وخَزِيَ ‏المُفتَرون على المسيحيّة" نظرًا لِما تجرّعت من كؤوس مرارة أهل الثقافات ‏الغريبة عن الكتاب المقدَّس.‏


‏1 التطويبات: هي تسع آيات قالها يسوع، تبدأ كل منها بكلمة "طوبى" الآرامية ‏الأصل، ومعناها: ما أسعده، هنيئًا له. مدوّنة في فاتحة عظة الجبل في الإنجيل ‏بتدوين متى\5 وفي الإنجيل بتدوين لوقا\6 والمزيد في ويكيبيديا: تطويبات.‏

‏2 يقع جبل التطويبات على بعد 12 كم من بحيرة طبريا ويعلو عنها حوالي 150 ‏مترًا لكنه تحت مستوى سطح البحر المتوسط بـ 62 م. عن\ مواقع مسيحية.‏

‎¤ ¤ ¤

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا