إشارات إلى العهد القديم – رابعًا: تدوين الإنجيل والبشارات الإزائية

يتضمن هذا القسم تأكيدًا على امتداد العهد القديم تاريخيًّا إلى العهد الجديد والتأكيد على أن السيد المسيح مِحور نبوّات الكتاب المقدَّس وتدوين الإنجيل جماعيًّا
23 سبتمبر 2015 - 02:59 بتوقيت القدس

سبق لي أن ذكرت في الحلقة السابقة أنّ قول السيد المسيح في موعظة الجبل مرّات عدّة: {قد سمعتم أنه قيل:... وأمّا أنا فأقول لكم...} يدل على أنّ السّامعين ‏مطّلعون على أسفار الناموس وسائر أسفار الأنبياء ومدركون تاليًا إشارات المسيح ‏إليها. ‏لكنّ قوله هذا دلّ أيضًا على أنّ العهد الجديد امتداد تاريخي للعهد القديم لتكملة مشروع الخلاص الإلهي. كما دلّت نبوّات الأنبياء، عن قضية مجيء المسيح، أنّ المسيح مِحوَر الكتاب المقدَّس، سواء المقدَّس منه عند اليهود والكامل الذي عند المسيحيّين. والمزيد عن موضوع المحور في الحلقة الأولى، والتي فيها أيضًا أن السيد المسيح ما جاء لينقض الناموس ولا الأنبياء بل ليكمّل (متّى 17:5)‏ فلهذه الدلالات ضمّ الكتابُ المقدَّسُ عند المسيحيّين أسفارَ العهد القديم ولم يقتصر على العهد الجديد.

لكن العهد الجديد، إذ ذكر ما قيل في العهد القديم، لم يذكر أين قيل وأحيانًا لم يذكر القائل، وأحيانًا ذكر صاحب السِّفر فقط، أي بدون تحديد الأصحاح ورقم الآية. فهذه السلسلة من المقالات ترشد دارس الإنجيل إلى أماكن النبوّات في العهد القديم وأسماء أنبيائها والأصحاحات والآيات وسائر ما استشهد به كتبة الإنجيل ولا سيّما متّى البشير. أمّا أسباب البدء بإنجيل متّى فتعود إلى أنّ تسلسل إنجيل متّى في العهد الجديد هو الأوّل. وأنّ بشارته هي إحدى البشارات الإزائية الثلاث (1) ونظرًا لأنّ متّى كتب إنجيله إلى اليهود، مستعملًا بعض العِبارات المفضّلة عندهم وشارحًا بعض معتقداتهم وبعض العادات، فلا شكّ في أنّه خلال تدوينه، بإرشاد الروح القدس، فكَّر في أن يستشهد ببعض ما ورد في العهد القديم (حوالي ستّين نبوّة منه) نظرًا لإدراك متّى أن المسيح هو موسى الجديد. ومعلوم أنّ موسى النبي هو الذي كتب التوراة ذات الأسفار الخمسة، ابتداءً بالتكوين وانتهاء بالتثنية، لذا قسَّم لاهوتيّون إنجيلَ متّى إلى خمسة أقسام أيضًا، مثالًا أنّ القسم الأوّل منها الموعظة على الجبل، كأنّهم يقولون لليهود إنّ إنجيل متّى، بهذه الأقسام، هو التوراة الجديدة. وهذه الأقسام موضّحة، مثالًا، في مقدّمة تفسير إنجيل متّى، بقلم القمّص تادرس يعقوب ملطي، والتفسير متوفّر على صفحات الانترنت.

ـ ـ ـ

إشارات الأصحاح السادس

إنّ كلّ من قرأ-ت الحلقة السابقة رأى أني ختمتها بآية محبّة الأعداء (متّى 5: 44) لذا سأنظر في هذه الحلقة إلى إشارات الأصحاح السادس الذي تضمّنته الموعظة على الجبل. لكني غضضت بالنظر، في الوقت نفسه، عن الآيات التي في كل منها إشارة إلى المدوَّن في سفر ما من أسفار (2) مختلف على القبول بها أسفارًا قانونية، سواء عند اليهود وعند المسيحيّين. وهذه من المشاكل التي عانيتُ خلال البحث، لأني لا أريد إثارة غبار خلافٍ ما بين الطوائف المختلفة.

ومن جهة أخرى؛ يسرّني أن أذكر مثالًا على التشابه ما بين البشارات الإزائية: الصلاة المسيحيّة الرَّبِّيَّة (أبانا الذي في السماوات...) التي دوَّنها متّى عن لسان السيّد المسيح؛ يجدها الدارس-ة مدوَّنة، حرفيًّا تقريبًا، في إنجيل لوقا\ بداية الأصحاح 11 وهذا لا يعني وجود تناقض بين التدوينَين على أن الحرف لم يكن مطابقًا 100% لأنّ المعنى واحد! إنما الأهمّ وجود تأكيدٍ وتدقيق وشهادتَين أمينتين في الأقلّ، لأنّ شهادة واحدة من لدن صاحبها، أيًّا كان، قد تكون خادعة وغير مقنعة ولا سيّما أهل هذا الزمان الذين بدأ كثير منهم بتشغيل العقل وترجيح كفّته على كفّة النَّقل.

فتدوين الإنجيل لم يقتصر على مدوِّن واحد، وإلّا لكذَّبه الناس، ما لم يحتقروه ويضربوه ويقتلوه، ورُبّما كان هذا واحدًا من أسباب استشهاد جميع تلاميذ المسيح، باستثناء يوحنّا الإنجيلي. ورُبّما حرص السيد المسيح على إرسال تلاميذه والرسل السبعين إلى الأمم اثنين اثنين (مرقس 6: 7 ولوقا 10: 1 وكورنثوس الأولى 14: 27 و29) لهذا السبب، حفاظًا على خدماتهم أطول ما يمكن. ومعلوم أنّ شهادة اثنين أو ثلاثة هي ما يُؤخذ به في القضاء منذ قديم الزمان. وهي حقّ مدوَّن في الكتاب المقدَّس قبل غيره؛ فقد ورد التالي في سفر التثنية 19: 15 بوضوح تامّ: {لاَ يَقُومُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى إِنْسَانٍ فِي ذَنْبٍ مَا أَوْ خَطِيَّةٍ مَا مِنْ جَمِيعِ الْخَطَايَا الَّتِي يُخْطِئُ بِهَا. عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلَى فَمِ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الأَمْرُ} وورد أيضًا اختيار شهود أمناء وليس شهود الزور: {وأَنْ أُشْهِدَ لِنفسِي شاهِدَيْنِ أَمِينَيْن: أُورِيَّا الكاهِنَ، وزكَرِيَّا بْنَ يَبْرَخْيَا}+ إشعياء 8: 2

فما اقتصر التدوين على متّى الإنجيلي، مثالًا، لأنّ تدوين الإنجيل، وسائر الكتاب المقدَّس، كان عملًا وليد إيمانٍ جَماعيّ وليس فرديًّا! لذا دَوَّن عن لسان المسيح عددٌ من الإنجيليّين، وهم من خلفية يهودية باستثناء لوقا، واستوحوا من أقواله. فمثالًا قوله: {لا تهتمّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟}+ متّى 6: 25 فهذا مدوَّن أيضًا في لوقا 12: 22-23 بآيتَين واستقاه بولس الرسول في فيلبي 4: 6 وفي تيموثاوس الأولى (6: 7-8) واستوحى منه بطرس الرسول في رسالته الأولى 5: 7 عِلمًا أنّ في قوله هذا إشارة إلى الآية {أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فهُوَ يَعُولُكَ...} في المزمور 55: 2


1 البِشارات الإزائية: هي المسمّاة بالغلط الشائع "أناجيل إزائيّة" لأنّ الإنجيل واحد وأنّ هذه الكلمة معرَّبة من اليونانية εὐαγγέλιον (ايوانجيليون) فلا يجوز جمعها! لكنّ التعبير الصحيح هو الإنجيل بتدوين كلّ مِن متّى ومرقس ولوقا؛ ويعني البِشارة السّارّة أو البشرى السّارّة أو بشرى الخلاص، ويعني رؤية الكُلّ معًا بنظرة تكامليّة. مثالًا: شجرة يقف لتصويرها ثلاثة مصوّرين من ثلاث جهات فالشجرة واحدة.

فاحتوى كل تدوين على صياغة متشابهة مع نظيرتها التي عند الآخر، وعلى موادّ متشابهة، وإن انفرد كلّ من الثلاثة بتدوين موادّ أخرى. مثالًا: انفراد لوقا بذكر لقاء السيد المسيح مع تلميذَي عِمواس، بعد قيامته من الموت؛ فذكر لوقا اسم أحد التِّلميذَين (كَلْيُوبَاس- لوقا 24: 18) ولم يذكر اسم الآخر، ما دعا إلى الظّنّ بأنّ التلميذ غير المذكور اسمه لوقا نفسه. كذا فعل مرقس في تدوين حادثة تسليم المسيح لليهود إذْ { تَبِعَهُ شَابٌّ لاَبِسًا إِزَارًا عَلَى عُرْيِهِ، فأَمْسَكَهُ الشُّبَّانُ، فتَرَكَ الإِزارَ وهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيانًا} مرقس 14: 51-52 فلم يذكر مرقسُ اسم الشّابّ، لكنّ أغلب الظّنّ هو أنّ الشّابّ مرقس نفسه.

2 المزيد في ويكيبيديا: الأسفار القانونية الثانية.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا