لغة العيون والنّظرات

إنْ كان من فضلة القلب يتكلّم الفم، فكم بالأكثر،إذن، ينبغي أن يُقال في العينين بأنّهما لا تحكيان فقط عن فيض ممّا فيه، بل بالحق كل ما فيه، وبطريقة واضحة ليس فيها إشكالٌ وضبابيّة!
03 مايو 2012 - 23:57 بتوقيت القدس

حوِّلي عنِّي عينيكِ فإنهما قد غلبتاني (نشيد الأنشاد6:5)

المقولة الإغريقيّة: إنْ كان من فضلة القلب يتكلّم الفم، فكم بالأكثر،إذن، ينبغي أن يُقال في العينين بأنّهما لا تحكيان فقط عن فيض ممّا فيه، بل بالحق كل ما فيه، وبطريقة واضحة ليس فيها إشكالٌ وضبابيّة! فإذا كان كلام أحدهم خلاف إفصاح عينيه، فعليك، دون تردّد، أن تعتمد ما تقوله نظراتهما، لا أقوال لسانه. فرسائل النّظرات المنبعثة منهما ليست بالشفرة المعقّدة التي يعسر فكّها، سواء حملت في إشاراتها معاني التّقدير والحب، أو الإستخفاف والبغضة. وسيّان إن حوت رموز التّعلُّق والرِّضا، أو إن كان فيها النّفور والغضب، فإنها تظل أوضح من أن يتم التّعتيم عليها. فللعيون لغة عفويّة صادقة لا تكذب أبداً، لكشف ما في قلوب أصحابها إلى حدٍّ لا يمكن لأحد إخفاءها أو تزييفها. صادقة هي المقولة الإغريقيّة:" العيون هي مرآة القلوب".

"حكيم عيون": لقد أدرك العريس في سفر النّشيد كنه الرسالة التي في عيني عروسه المحبوبة، فقال لها بتقدير كبير لِما وراء نظراتهما: "حوِّلي عنِّي عينيكِ فإنهما قد غلبتاني" (نشيد الأنشاد6:5). على أن الموقف هنا لم يكن فيه أي خداع أو لَبْس، كما حدث في مونولوج غنائي معروف: " حكيم عيون" حيث ادّعى خلاله بطلنا أمام إحداهنّ أنه بارع في معرفة هوى العيون...ولمّا جاءه الردّ بالصّد،غنّى حينئذ بألم حادٍّّ( باللّهجة المصرية): " دِلْوَأتِ عْرفت إنُّو خدعوني قلبي وعْنيّا". حقّاً إن "القلب أخدع من كل شيء وهو نَجِيس، مَن يعرفه!" (ارميا17:9). فمتى مال قلب المرء بهوى غريب، يسهل عندئذ خداعه لكي يفسِّر كلام العينين كما يتواءم مع أمياله الجسديّة، حتى وإن كانت الحقيقة الصّارخة لنظراتهما بخلاف ذلك.

عواطف الماس الأبيض الشّفاف: أمّا الحبيب- وهو الفاحص القلوب والكلى، والذي لا يمكن أن يُخدع أبداً- فقد عرف أن نظرات العروس لم يكن ليشوبها أي زيف خداعٍ البتّة، بل حملت في ثناياها كل إعجاب شديد وحبٍّ صادق وعميق، مُفعمين بالأشواق الحارّة من نحوه. فلهذا نسمعه يعبِّر لها عن عظمة اعتباره لما فيها من محبة حارّة له. كما أنّه لا يقصد فعلاً أن تُحول عينيه عن النّظر إليه، لكنه يريد أن يقول لها إن تأثيرات حبِّها له، الظّاهر في عينيها، قد نفذت إلى أعماقه وملكت عواطفه حتى لم يعد يحتمل معها كل هذا السّرور العظيم الذي ملأ كيانه بسبب حالة قلبها المتزايدة في المحبة والتّكريس لشخصه الغالي المعبود. إننا لا نراها هنا تسير صاعدة في موكب البركات الملوكية في طريق خضوع الإرادة وتجديد الذهن فقط، بل تُرى أيضاً، وبعد أن أجازها الرب في اختبارات محرقة ومؤلمة جدًّا على الصّعيد العاطفي، وقد أصبحت عاطفة محبتها خالصة لا يمازجها شيء من المشاعر الطّبيعيّة المتذبذبة، إذ دخلت منطقة الموت عن رغباتها، مع الرب، ثم خرجت من هناك بعواطف مُقامة من الموت هي أنقى وأسمى وأصدق ممّا كانت. يا لعواطفها الماس الأبيض الشّفاف الضّارب إلى الزُّرقة، والذي لا تشوبه الآن أية شائبة من فحم الذّات، وبلا صَدْع كذلك! ويا لهذا السّمو التّكريسي الفائق الذي بلغته بعواطفها المنسجمة مع الّروح- مع مشتهى قلب حبيبها!

الرّب القدير يُقرّ بهزيمته: ومَنْ هو العريس الحبيب إلاّ الرّب القدير بذاته الذي لا يُمكن أن يُهزم أمام أيّة قوّة في الوجود أيّاً كانت، غير أنه الآن يُسمع وهو يُقرّ بأنه قد غُلب من نظرات عينيها المولعة به، وأمام قوّة محبّتها الضّاربة ما عاد يقوى على أي مقاومة أو ممانعة، أو رفض أي طلب يأتي من قبلها! فنظرات اللّطف والمحبّة أمضى من السّيوف البارقة وأكثر اقتداراً من القوى الفائقة.
فعندما نوجد "ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع..." (عب12:2) نظرات الإنشغال الدّائم بكلامه وتثبيت عيون فكرنا على شخصه في العُلى، نجده إذ ذاك لا يقدر إلاّ أن يُمتعنا ببهاء جديد من محبته، مظهراً تقديره العظيم لنظراتنا الحُبيّة هذه. ففي ذلك تكون لدينا العين البسيطة والقلب الموحّد لخوف اسمه المجيد. وعلى قدر ما نتحوّل عن النّظر إلى ما تحت الشّمس وعن الإهتمام بالوقتيّات، ينجلي الظّلام والخداع وذلك بنورٍ عجيب؛ وكلّما تطلعنا إلى العلاء بفكر نقي وعواطف متركِّزة في الإهتمام بما فوق حيث المسيح جالس الآن، تستنير حياتنا أكثر فأكثرحتى يتعاظم سرور الرب بنا، ويتزايد فرحنا به.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا