في كثير من الأحيان، يُهمل المؤمنون الحديث عن الروح القدس أو يُقتصر ذكره على العقائد دون إدراك عُمق شخصه وعمله. في حين أن الروح القدس هو الأقنوم الثالث في الثالوث القدوس، إلا أنه كثيرًا ما يُعامَل وكأنه أقل أهمية من الآب والابن. لكن في الحق الإلهي، هو الله نفسه، وله كل السلطان والقداسة والمجد، مثل الآب والابن تمامًا. هذا المقال يسعى لتسليط الضوء على “الأقنوم المظلوم”، الروح القدس، من منظور كتابي ولاهوتي سليم، كما يكشفه لنا الكتاب المقدس.
١. من هو الروح القدس؟
“وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ.” (٢ كورنثوس ٣: ١٧)
باليونانية تُفهم هذه الآية أن “السلطة العليا هي الروح”، حيث يحل الروح القدس يحل السلطان والتحرير. إنه الله نفسه. وعندما نعلن حضوره ومكانته الحقيقية، تتحقق الآيات والعجائب وتحدث النهضة الحقيقية.
الروح القدس ليس فكرة غامضة أو تأثيراً روحياً، بل هو شخص حقيقي، الأقنوم الثالث في الثالوث. ليس مجرد عقيدة لطائفة معينة بل هو “روح الله” العامل في كل الأزمنة، في الكنيسة، وفي حياة كل مؤمن. يقول الرسول بولس:
“وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ.” (٢ كورنثوس ٣: ١٧)
باليونانية تُفهم هذه الآية أن “السلطة العليا هي الروح”، حيث يحل الروح القدس يحل السلطان والتحرير. إنه الله نفسه. وعندما نعلن حضوره ومكانته الحقيقية، تتحقق الآيات والعجائب وتحدث النهضة الحقيقية.
٢. شخص الروح القدس
الكتاب المقدس يؤكد بوضوح أن الروح القدس هو شخص له مشيئة، وعقل، ومشاعر، ويتكلم ويتحرك. هو ليس قوة غير مرئية، بل كائن إلهي حي.
أ- الروح القدس يتكلم
“وَبَيْنَمَا هُمْ يُؤَدُّونَ خِدْمَةَ الرَّبِّ وَيَصُومُونَ، قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: «افْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ».” (أعمال ١٣: ٢)
الروح القدس يتكلم بصيغة المتكلم “لِي… دَعَوْتُهُمَا”، مما يُظهر شخصه الكامل.
ب- الروح يُطفأ
“لاَ تُطْفِئُوا الرُّوحَ.” (١ تسالونيكي ٥: ١٩)
يُطفأ عندما يُقاوَم عمله في حياة المؤمن أو يُهمَل إعلانه أو يُستبدل بمشيئة الإنسان.
ج- الروح يُحزن
“وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللَّهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ.” (أفسس ٤: ٣٠)
يُحزن عندما يعيش المؤمن في الخطية أو يرفض التقديس والطاعة لصوت الروح.
د- الروح له مشيئة وإرادة
“وَلكِنْ هذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ، قَاسِمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمَا يَشَاءُ.” (١ كورنثوس ١٢: ١١)
الروح يوزع المواهب بحسب مشيئته، وليس بحسب استحقاق أو طلب الإنسان، فهو سيد العمل الروحي في الكنيسة.
هـ- الروح القدس يكشف السرائر
في قصة حنانيا وسفيرة في أعمال ٥، نقرأ عن كيف كشف الروح القدس نفاقهما وكذبهما:
“لِمَاذَا مَلَأَ الشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ…؟” (أعمال ٥: ٣)
الروح يكشف الأعماق والنيات، ويمارس دوره كديّان داخل الكنيسة.
٣. السكنى – المعمودية – الامتلاء
لا بد من التمييز بين هذه الثلاثة المفاهيم التي يتعامل بها الروح القدس مع المؤمن:
أ- السكنى
عند الإيمان بالرب يسوع المسيح، يسكن الروح القدس في قلب المؤمن:
“الَّذِي فِيهِ أَيْضًا أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ.” (أفسس ١: ١٣)
السكنى مرتبطة بالخلاص، وهو ختم أبدي ودليل الانتماء لعائلة الله.
ب- معمودية الروح القدس
المعمودية تشير إلى الغمس الكامل في الروح، وهو اختبار يُمنح في وقت الخلاص أو بعده.
“وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ… وَامْتَلَأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.” (أعمال ٢: ٢-٤)
في المعمودية، “أنا في الروح”، أي أُغمس فيه وأصبح تحت سلطانه.
ج- الامتلاء اليومي
الامتلاء بالروح هو عمل مستمر، ووصية كتابية يومية:
“امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ… شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ.” (أفسس ٥: ١٨-٢٠)
هو تجاوب مع عطش القلب وتقديس السلوك وسماع صوت الله باستمرار.
٤. عيد الخمسين (شَبوعوت) في العهد القديم: الحصاد وكلمة الله
يُعد عيد الخمسين في العهد القديم أحد الأعياد الثلاثة العُظمى التي كان يجب على كل ذكر من بني إسرائيل أن يصعد فيها إلى أورشليم أمام الرب (تثنية ١٦: ١٦). وهو العيد المعروف في اللغة العبرية باسم “شَبوعوت”، أي “الأسابيع”، لأنه يأتي بعد سبعة أسابيع كاملة من عيد الفصح، ويُحتفل به في اليوم الخمسين، ولهذا سُمي أيضًا “عيد الخمسين”.
الموقع الزمني والاسم العبري
أمر الرب موسى في الشريعة قائلًا:
“ثُمَّ تَعُدُّونَ لَكُمْ مِنْ غَدِ السَّبْتِ، مِنْ يَوْمِ إِتْيَانِكُمْ بِحُزْمَةِ التَّرْدِيدِ، سَبْعَةَ أَسَابِيعَ. تَكُونُ كَامِلَةً. إِلَى غَدِ السَّبْتِ السَّابعِ تَعُدُّونَ خَمْسِينَ يَوْمًا، وَتُقَرِّبُونَ تَقْدِمَةً جَدِيدَةً لِلرَّبِّ.” (لاويين ٢٣: ١٥-١٦)
وهكذا، يُحسب عيد الخمسين ابتداءً من ثاني يوم عيد الفصح (عند تقديم أول حزمة من الحصاد الجديد)، وبعد ٧ أسابيع، في اليوم الخمسين، يُحتفل بعيد “الأسابيع” أو “شَبوعوت”، ويُقدم فيه حصاد القمح.
الجانب الزراعي: عيد الحصاد الكثير
كان هذا العيد يُعتبر عيد الحصاد الثاني، بعد عيد البواكير الذي فيه يُقدم أول سنابل الشعير. في عيد الخمسين يُقدم حصاد القمح، أي الجزء الأهم والأغزر من غلال الأرض:
“وَعِيدُ الْحَصَادِ أَبْكَارِ غَلاَّتِكَ الَّتِي تَزْرَعُ فِي الْحَقْلِ…” (خروج ٢٣: ١٦)
“… وَعِيدُ الْحَصَادِ أَبْكَارِ أَعْمَالِكَ الَّتِي عَمِلْتَ فِي الْحَقْلِ.” (خروج ٣٤: ٢٢)
كان يُحتفل في هذا العيد بفيض النعمة، حيث يأتي المؤمنون إلى بيت الرب ومعهم تقدمات من حصاد القمح ليعترفوا أن كل الخير هو من عند الله. كان يُقدم رغيفان مختمرَان من الدقيق الفاخر مع ذبائح وتقدمات سلامية، إعلانًا عن فرح الشعب أمام الرب (لاويين ٢٣: ١٧-٢٠).
الجانب الروحي: ذكرى إعطاء التوراة
بحسب التقليد اليهودي، فإن عيد الخمسين (شَبوعوت) لا يُرتبط فقط بالحصاد المادي، بل يحمل أبعادًا روحية عظيمة، لأنه في هذا اليوم استلم موسى التوراة من الرب على جبل سيناء بعد خروج الشعب من أرض مصر بخمسين يومًا.
ففي هذا العيد، يحتفل اليهود بأن الله أعطاهم كلمته المكتوبة، أي الشريعة، والتي بها صاروا “شعب الله” المتميز عن باقي الأمم. التوراة كانت “ثمر الروح” الذي غرسه الله في قلب الأمة، مثلما يُقدمون في العيد ثمر الحقول:
“فَأَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا.” (إرميا ٣١: ٣٣)
العيد والتقدمة المزدوجة: رمز للأمم واليهود
الرغيفان اللذان كانا يُقدمان في عيد الخمسين يرمزان إلى شيء هام في قصد الله:
• اثنان، وليس واحدًا، لأن المقصود بهما رمزيًا: اليهود والأمم، الذين سيجمعهم الله في جسد واحد في الكنيسة.
• ومخمّران، مع أن كل التقدمات في العهد القديم كانت بلا خمير. هذا لأن الكنيسة، رغم كونها مقدسة، لكنها تتكون من بشر ما زال فيهم ضعف وسقطات.
هذا المعنى يظهر بوضوح في العهد الجديد، حيث في يوم الخمسين الحقيقي، نال كل من كان حاضرًا في العلية (وكانوا يهودًا من كل الأمم) الروح القدس، ثم انضم إليهم الأمم في امتداد الكرازة.
عيد الخمسين كظل للعهد الجديد
عيد الخمسين في العهد القديم كان ظلًا لما سيحدث في يوم الخمسين في العهد الجديد. فكما أُعطيت التوراة في سيناء على ألواح حجرية، هكذا في العهد الجديد أُعطي الروح القدس ليكتب شريعة المسيح في القلوب، ويكون الروح هو القائد والمعلم والمعزي.
“لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا.” (يوحنا ١: ١٧)
“وَأُعْطِيَ لَكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحِي دَاخِلَكُمْ.” (حزقيال ٣٦: ٢٦-٢٧)
أهمية العيد في حياة المؤمن اليوم
بالنسبة لنا اليوم، عيد الخمسين ليس فقط ذكرى تاريخية بل هو دعوة إلهية للامتلاء بالروح القدس، ليصبح كل واحد فينا إناءً ممتلئًا “بثمر الروح” (غلاطية ٥: ٢٢-٢٣)، ويعيش حياة الحصاد الروحي.
٥. الروح القدس والعطش الروحي
الشرط الأساسي لنوال الامتلاء هو العطش لله:
“إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي… تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ… قَالَ هذَا عَنِ الرُّوحِ.” (يوحنا ٧: ٣٧-٣٩)
لن ينال أحد عمل الروح إن لم يعطش، وإن لم يطلب بإلحاح، كما جاء في (لوقا ١١: ١٣):
“فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ، يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ؟”
٦. الامتلاء وصية لا اختيار
الله لم يترك لنا حرية القرار إن كنا نريد أن نمتلئ بالروح أم لا، بل أمر صريح:
“فَلاَ تَكُونُوا جُهَّالاً… بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ.” (أفسس ٥: ١٧-١٨)
وإلا فالبديل هو الامتلاء من العالم والجسد:
“وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ: الَّتِي هِيَ: زِنىً، عَهَارَةٌ، نَجَاسَةٌ، دَعَارَةٌ، عِبَادَةُ الأَوْثَانِ، سِحْرٌ، عَدَاوَةٌ…” (غلاطية ٥: ١٩)
بينما يقول بولس:
“أَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي الْجَسَدِ بَلْ فِي الرُّوحِ.” (رومية ٨: ٩)
٧. كيف يحل الروح؟
الكتاب يربط انسكاب الروح بثلاثة عناصر أساسية:
١- التعليم الصحيح: “أَوْصَى بِهِمْ يَسُوعُ لِلرُّسُلِ… بِالرُّوحِ الْقُدُسِ.” (أعمال ١: ٢-٨)
٢- الصلاة المستمرة: “كَانُوا يُوَاظِبُونَ… عَلَى الصَّلاَةِ.” (أعمال ١: ١٤-١٥)
٣- وَحدة القلب: “بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.” (أعمال ٢: ١-٤)
الخاتمة
الروح القدس ليس مبحثًا لاهوتيًا ندرسه، بل شخص إلهي علينا أن نحبه، ونسمح له أن يملك. هو الأقنوم المظلوم الذي يريد أن يأخذ مكانته في الكنيسة، في العائلة، في قلب كل مؤمن. عندما نعطيه مكانه، نرى الحرية، القيامة، النار، والامتداد. حينها لا تبقى الكنيسة ضعيفة بل تصبح نارًا متقدة وروحًا نابضة، لأن “حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ.”
أعلِن اليوم أن الروح هو السلطة العليا، واترك له المجد والمُلك في حياتك