تُعَدّ السيدة العذراء مريم من أكثر الشخصيات تبجيلًا. وبعد سماعها بشارة الملاك وزيارتها لنسيبتها أليصابات، تغنّت قائلة: «هُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي» (لوقا 1: 48). وكثيرًا ما تُصوَّر رمزًا للنقاء والنعمة والإخلاص، وهي بحقٍّ قديسة عظيمة. لكن يجب أن نتذكر أن العذراء مريم كانت بشرًا مثلنا، وقد اختبرت مشاعر مختلفة ومختلطة طوال حياتها: الفرح والحزن، والسعادة والألم. وعندما نتأمل حياتها نلاحظ نمطًا متكررًا: لحظات فرحها كانت دائمًا محاطة بالألم والمعاناة. إنه «الفرح المؤلم» الذي عاشته، ونعيشه نحن أيضًا في رحلة حياتنا وإيماننا. ويمكننا أن نرى ذلك في الآتي:
أولًا: طبيعة الفرح المؤلم
إن «الفرح المؤلم» ليس تناقضًا، بل حقيقة إنسانية وروحية عميقة. إنه اختبار متشابك يتعايش فيه الفرح والحزن، نابع من إيمان كامل وطاعة لمشيئة الله. فالأحزان الهائلة لا تنفي الفرح العميق القائم على الإيمان، بل تتجاور معه. وهذا يدل على أن الغاية الإلهية قد تمرّ عبر المعاناة، لكنها تقود في النهاية إلى الرضا والرجاء، فتمنحنا نموذجًا للصمود والثقة والأمل وسط مصاعب الحياة الجسدية والروحية.
وهكذا استقبلت العذراء مريم خبر ميلاد يسوع بفرح وخوف وألم في آنٍ واحد: فرحت باختيار الله لها لولادة يسوع المسيح المخلّص الموعود، لكنها خافت من ردّة فعل المجتمع. فجاء سؤالها للملاك: «كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» (لوقا 1: 34). وتعلّمنا حياة القديسة العذراء مريم أن الفرح الحقيقي قد يتعايش مع الألم والمعاناة الشديدة لأنه متجذر في صلاح الله وخطته للخلاص والرجاء الأبدي. إن «الفرح المؤلم» هو تلاقي الألم والفرح في مسيرنا مع الرب؛ بل هو معيّة الرب لنا التي تحوّل الألم إلى فرح.
لم يكن فرح العذراء مريم مشروطًا بغياب المعاناة، بل بثقتها العميقة بأن الله قادر أن يخرج الخير من كل شيء. ومن خلال تقبّلها لحياة الفرح المؤلم، تقدم مريم نموذجًا للمؤمنين: كيف نجد المعنى والسلام والفرح الدائم في خضم تحديات الحياة الحتمية.
ثانيًا: لقطات من الفرح المؤلم في حياة القديسة العذراء مريم
تكشف لحظات الفرح المؤلم في حياة العذراء مريم ثقتها الكاملة في الله وقبولها المبهج لإرادته، مما يدل على أن فرحها لم يكن يعتمد على الظروف الخارجية، بل على إيمانها الراسخ. وفيما يلي بعض المواقف المفرحة والمؤلمة في آنٍ واحد:
- البشارة المفرِحة والمُقلِقة
جاء الملاك ببشرى سماوية للعذراء وأخبرها بأنها وجدت نعمة عند الله، وأنها ستحبل وتلد ابنًا وتسميه يسوع. وليس هذا فقط، بل سيكون هذا الابن عظيمًا وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه. كل هذه الأخبار مفرحة وتبعث على البهجة: إنها مختارة الله العلي، ومن خلالها سيتحقق رجاء الأجيال بميلاد المسيّا المخلّص. لكن هذه البشرى جلبت معها مزيجًا من الخوف والحيرة والقلق، فتساءلت: «كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا؟». وكانت فرحتها تصطدم بواقع المجتمع والشريعة، بما قد يجرّه الأمر عليها من اتهام وألم… إنها لحظات فرح ممزوجة بالألم. - فرحة زيارتها لأليصابات وآلام الطريق
عرفت العذراء بخبر حمل نسيبتها أليصابات وهي في سن الشيخوخة، ففرحت وقامت مسرعة لمشاركتها الفرح. لكنها احتملت آلام الطريق الطويل (نحو 80 ميلًا وصولًا إلى مدينة بيت يهوذا). وعند اللقاء سمعت شهادة أليصابات: «… فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب». إنها لحظات مبهجة، لكنها قضت نحو ثلاثة أشهر تخدم امرأة متقدمة في السن وهي حامل، بينما كانت هي أيضًا تحتاج إلى العناية. إنه الفرح المؤلم. - فرحة ولادتها لابن الله وآلام الاستقبال المتواضع في مذود
كانت لحظة ولادتها ليسوع لحظة فرح لتأكدها من حقيقة بشارة الملاك، وأن المولود منها سيكون ملكًا على كرسي داود أبيه. لكن واقع اللحظة كان مؤلمًا: رحلة سفر للاكتتاب، ثم عدم العثور على موضع مناسب للولادة. وكما يكتب البشير لوقا: «… فولدت ابنها البكر… وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل». ثم جاء الرعاة يسبحون الله ويخبرونها بالبشارة… فكانت لحظات الفرح تصاحبها الآلام. - فرحة تكريس ابنها لله وآلام نبوة السيف
بعد أن أتمت أيام تطهيرها، صعدت هي وزوجها يوسف إلى الهيكل في أورشليم لتقديم ابنها البكر تقدمة للرب بحسب الشريعة. كانت لحظات فرح لا تُنسى، لكنها تألمت حين سمعت نبوة سمعان الشيخ: «وأنتِ أيضًا يجوز في نفسك سيف» (لوقا 2: 35). إنه الفرح المؤلم… - فرحة زيارة المجوس وآلام بكاء راحيل على أولادها
فرحت مريم بزيارة المجوس حكماء الشرق الذين قطعوا رحلة طويلة ليروا مولودها، يسوع ملك اليهود ومخلّص البشرية. وسجدوا له وقدموا هدايا ذات دلالات. لكنها تألمت حين بلغها قرار هيرودس بقتل أطفال بيت لحم دون السنتين بغية قتل يسوع. وكان صراخ بيت لحم تحقيقًا لنبوة: «… راحيل تبكي على أولادها…» (إرميا 31: 15؛ قارن متى 2: 18).
وهكذا تتعدد لحظات الفرح المؤلم في حياة العذراء مريم: تفرح بحضور العيد مع يوسف ويسوع في أورشليم، وتتألم لفقدان يسوع ثلاثة أيام (لوقا 2: 41-52). وتفرح وهي ترى ابنها يصنع المعجزات، وتتألم وهي ترى المكائد تُحاك ضده. ولا تُنسى لحظات الصلب: تفرح لاقتراب تحقق الخلاص، لكنها تتألم لآلام ابنها وموته ودفنه أمام عينيها. ثم تبلغ الفرح ذروته بقيامته وصعوده… مع ألم الفراق البشري.
وفي كل ما عاشته مريم من «الفرح المؤلم» كانت نموذجًا يمنحنا القدرة على مواجهة تحديات الحياة بأفراحها وآلامها.
ثالثًا: دروس نتعلّمها في رحلة حياتنا من أفراحٍ مؤلمة
- مصدر فرحنا هو الله لا الظروف: لم يكن فرحها نابعًا من سير الأمور على ما يرام، بل من ثقتها بالله القادر أن يخرج الخير من كل شيء؛ فرح يدوم رغم المعاناة.
- الحب والفقدان متلازمان: يُظهر مسار حياتها أن الحب العميق ينطوي بطبيعته على احتمال الألم والفقدان، وهو جانب إنساني ذو معنى.
- إيمانها الراسخ نموذج لنا: تعلمنا رحلتها أن الحياة والإيمان يضمان الفرح والحزن معًا، وأننا نستطيع أن نجد القوة والرجاء بقدر ما نثق بالله ونلجأ إليه وقت المحنة.
- حتى القداسة لا تعفي من المعاناة: فالألم مؤلم بطبيعته ولا أحد يحبه؛ ومع ذلك ظلّت مريم ثابتة الإيمان. ويكفي قولها: «يا بنيّ لماذا فعلت بنا هكذا؟… كنا نطلبك معذّبَين!» (لوقا 2: 48).
- طريق الحياة الأبدية يمر عبر الصليب: ولأن هذا هو طريق يسوع، فلا سبيل غيره. ووعد الله بإزالة المعاناة عند مجيئه الثاني، وفي هذه الأثناء يمنحنا نعمة نستخرج بها من الألم خيرًا عظيمًا. آمنت مريم بهذا من صميم قلبها… فهل تؤمن أنت أيضًا؟
ونحن نحتفل بميلاد المسيح، الرب المخلّص، لِنَثِقْ بهذا الإله، ولنَعِشْ كمريم: يكتمل فرحنا حتى في المعاناة. كانت هذه حقيقة ثابتة في حياة مريم، وهي رجاء كل مسيحي ابنٍ لله.
