المحبة والخضوع - الدولة والسلطة

يقول الرسول بولس للكنيسة في رومية ومن خلالها لكل الكنائس (لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ)، وهذه عبارة مطلقة تشمل جميع الحكام والمتسلطين في كل المجتمعات والدول بغض النظر عن أسمائهم أو ألقابهم
29 فبراير 2020 - 23:03 بتوقيت القدس

ونحن على اعتاب انتخابات برلمانية بعد بضعة ايام في بلادنا، سوف نتأمل بعلاقتنا كافراد مؤمنين مع الدولة التي نعيش فيها، او حتى ككنائس بشكل عام وكيفية تعاملنا مع السلطة.

سوف يكون هذا المقال هو الاخير بهذه السلسلة، التي تأملنا بها بالتوازن المقدس ما بين المحبة والخضوع، لان من يُحب لا بُد ان يخضع لمن يُحبه، ان كان ذلك بعلاقتنا مع إلهنا الذي احبنا، العلاقة الزوجية، في العائلة، في الكنيسة وايضًا تحت سلطة الدولة.

طبعًا نحن نعرف جميعًا ان هذا الموضوع هو مُعقَّد ومُركب جدًا، وهناك عدة آراء نحو هذا الموضوع، لاننا نحن المسيحيين في هذه البلاد، موقفنا صعب جدًا لاننا نعيش كاقلية داخل اقلية، نحن الكنيسة الانجيلية نُعد اقلية بالنسبة للارثوذكسية والكاثوليكية، وكمسيحيون نحن اقلية في المجتمع العربي بشكل خاص، وبشكل عام اقلية عربية وسط المجتمع اليهودي في دولة اسرائيل، بالفعل موقف لا نُحسد عليه.

نحن كاقلية إنجيلية في الدولة، نبذل قصارى جهدنا (على الاقل مما رأيت وسمعت انا شخصيًا من الخدام بشكل عام) بان لا نتحيَّز في موقف سياسي، لاجل منفعة ذاتية او حتى مصلحة الكنيسة بشكل عام.

لكن كثيرًا ما نسمع اننا نحن "صهاينة"، تركنا اهلنا وقضايانا ومجتمعنا، فهناك من يدعي اننا نحن عُملاء للدولة اليهودية (وان كُنَّا بالفعل كذلك لماذا لم نحصل بعد على الاعتراف الرسمي بنا من قبل الدولة!)، من ناحية اخرى هناك من يلتزم بموقف سياسي واضح وصريح، لانه يعتقد انه علينا ان نعبر عن آرائنا وان ندافع عن شعبنا، وان لا نصمت وسط الظُلم والاضطهاد!

نحن كخدام للانجيل في هذه البلاد المعقدة، هل علينا ان ننخرط في العمل السياسي، ونعبر عن آرائنا الشخصية والعامة، او علينا ان نخدم الرب فقط في الحقل الروحي من تبشير ونشر كلمة الانجيل للجميع، لخلاص النفوس من العرب واليهود، بغض النظر ما خلفية الشخص الذي نخدمه، من ناحية اجتماعية، دينية او حتى سياسية.

اذا تأملنا في حياة ربنا يسوع المسيح، نرى مدى محبته لجميع اطياف المجتمع، للغني والفقير، للمتعلم والأُمي، لمن في منصب بالمجتمع او لمن هو مهمش به، لليهودي وللاممي، للشيوخ والاولاد.

كان هدف ربنا يسوع المسيح الاول والاخير هو خلاص النفوس، نشر كلمة الانجيل، شفاء المرضى وتحرير المقيدين. واذا تأملنا في حياته، نرى انه كان منبوذًا حتى من اخوته واهل بلدته، بل ومُضطَهدًا ايضًا من رجال السلطة الرومان واليهود، كان مرفوضًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة، ونقول لماذا؟

لان ربنا يسوع المسيح ثَبَّت انظاره نحو أورشليم، ليس الارضية المُستعبدة مع بنيها، لكن اورشليم السماوية الحُرَّة، التي هي أُمَّنا جميعًا (غلاطية 26:4). كان شوق قلبه خلاص النفوس من شر الخطية والعبودية والموت الروحي، والانفصال الابدي عن الله الآب القدوس، لذلك لم يتملق ربنا يسوع المسيح وجوه القادة السياسيين ولا حتى الدينيين على حساب الحق الالهي، كذلك هو لم يأتي من السماء لكي يُؤسس له ملكوت ارضي ابدي على الارض، حتى انهم ظنوا بان ينصبوه ملكًا في أورشليم، لكنه هو اخلى نفسه من هذه الافكار الارضية الشهوانية، وثبت انظاره نحو اورشليم السماوية، نحو الجلجثة، نحو الصليب، نحوي ونحوك لانه احبنا جميعًا حتى موت الصليب.

هيرودس وبيلاطس عثروا به، حنانيا وقيافا تآمروا عليه، اما هو، يسوع المسيح، القدوس البار، الذي جاء الى خاصته، لكن خاصته (الشعب اليهودي) لم تقبله، لكن كل الذين قبلوه، اعطاهم سلطان ان يصيروا اولاد الله، اي المؤمنين باسمه، عربًا ويهودًا، من شعب اسرائيل ومن الامم، فقراء واغنياء.

لكن هو احب شعبه، احب "الاراضي المقدسة"، مع اننا لا نرى اليوم شيء من القداسة حولنا، سوى ذكرى بيت لحم، وشواطئ طبريا وكفر ناحوم ومدينة الناصرة، اريحا وبيت عنيا واورشليم، وهذا النزاع الدموي على "القدس" وعلى اورشليم، مدينة الملك العظيم، حتى الى يومنا هذا، لا تعرف الدجاجة ان تجمع فراخها، والى يومنا هذا، لا تعرف اورشليم زمن افتقادها!!!

كذلك رسول الامم بولس، الذي كان يُدعى اولًا شاول الطرسوسي، الذي كان راضيًا بقتل المؤمنين واسرهم واضطهادهم وباسم من ؟ باسم الدين والناموس والغيرة لله، لكن بعد لقائه الشخصي مع يسوع المسيح، تغيرت حياته واصبح رسول الامم بولس، الذي لم يُدافع عن قضية شعبه اليهودي ضد الاحتلال الروماني آنذاك، لكنه كان ليل نهار منشغل بالخدمة والوعظ والصلاوات والتبشير وافتقاد الكنائس والمؤمنين والمحتاجين، ومع كل هذا كان ايضًا منشغل بعمله الخاص، لتسديد احتياجاته الخاصة وحتى احتياجات الاخوة، وهو الذي اوصى في رسائله ان نكون محبين لشعبنا وبلدنا والذي في السلطة في بلادنا.

وهو اوصى ابنه تيموثاوس بان تقام طلبات وصلاوات لاجل جميع الناس، ولاجل الملوك وجميع الذين هم في منصب، لكي نقضي حياة مُطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار، لان هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله، الذين يريد ان جميع الناس يخلصون، والى معرفة الحق يُقبلون (تيموثاوس الاولى اصحاح 2). اوصى بولس ان نصلي لجميع الناس، بل ان نحب ايضا جميع الناس، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية الدينية، ان كان على نطاق قريتي، مدينتي او حتى دولتي، ان كانت بين الشعب اليهودي في اسرائيل، او الشعب الفلسطيني في مناطق السلطة الفلسطينية.

علينا جميعًا كخدام وكنائس، ان نحب الشعبين الاسرائيلي والفلسطيني، محبة غير مشروطة بما يقوله او يفعله كل من الطرفين، ولماذا؟

اولًا وقبل كل شيء لاننا نتمثل بربنا ومخلصنا يسوع المسيح له كل المجد، الذي جاء من السماء برسالة سماوية، وهي خلاص النفوس وبناء ملكوت الله في قلوب الناس، كذلك رسل وخدام المسيح كانت رسالتهم سماوية روحية بشكل مطلق، ولا نراهم "يتحيزون" مع شعب اسرائيل ولا مع الرومان، بل هم ايضًا كان شغلهم الشاغل خلاص النفوس، ان كان بطرس مع كرنيليوس، فيلبس مع الخصي الحبشي، حتى ان بولس اليهودي الاسرائيلي ارسله الله لخدمة الامم من افسس الى تسالونيكي الى كورنثوس حتى روما، هذا الناموسي الغيور لتعاليم الآباء، اصبح رسول الامم ولم تكن خدمته في اورشليم، بل كما كانت النبوة انه سوف يحمل اسم الرب امام اممٍ وملوكٍ وبني اسرائيل.

كانت وصية بولس لتيموثاوس بان نصلي للجميع، لكي نعيش حياة مطمئنة هادئة، لكن قبل كل شيء الهدف الاول والاخير كان ان الجميع يخلصون، والى معرفة الحق يُقبلون، وهذه يجب ان تكون دعوة الكنيسة الاولى والاخيرة، خلاص النفوس.

هناك من يقول انه علينا ان نقف مع شعبنا المظلوم، وان نطالب بالعدالة الاجتماعية بكل ثمن، حتى الانخراط بالعمل السياسي والتحيز لحزب او لمجموعة معينة.

لكن هل لنا نحن ككنيسة وخدام للرب والانجيل ان نفعل ذلك؟ هل من الممكن ان هذا الانخراط السياسي ان يُعثر بعض الاخوة الضعفاء؟ والاكثر من ذلك اقول هل نحن الذين "ندافع" عن شعبنا وقضيتنا، هل نملك الحق المطلق على اساس الكتب المقدسة؟ هل شعبنا كامل؟ هل حكامنا كاملون؟ وما هو الدافع الحقيقي وراء كل تحرك سياسي كان ام اجتماعي؟

من ناحية اخرى هناك من يقول انه ليس علينا ان نتدخل بالمرة بهذه الامور السياسية ولا حتى ان نذهب للتصويت في صناديق الاقتراع!

تبقى القاعدة الكتابية الاسمى من كل اعتبار:
"انه ينبغي ان يطاع الله اكثر من الناس"

نعم علينا ان نخضع للسلطة في الدولة التي نعيش فيها، وبأن نصلي للذين في السلطة كما يعلمنا الكتاب المقدس، لكن اذا خالف ذاك الرئيس وصية الرب والكتاب المقدس، فهل علينا ان نخضع؟ مثلًا اذا اصبح الاجهاض شيء شرعي هل نحن نوافق ؟ اذا اصبح استعمال المخدرات شيء شرعي فهل نوافق؟ 

لنذكر ما قاله كتاب الجامعة 8:5 "ان رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد، فلا ترتع من الامر، لان فوق العالي عاليًا يلاحظ، والاعلى فوقهما".

دورنا ككنيسة ومؤمنين وخدام في هذه البلاد المعقدة، المليئة بالتحديات والمعضلات، ان لا نكون سبب عثرة لاحد، لا باسم الدين ولا السياسة ولا الحق البشري، لكن نحن كنيسة الله الحي، عمود الحق وقاعدته (تيموثاوس الاولى 15:3)، وعن اي حق نتكلم؟ الحق البشري الزمني الارضي، ام الحق الالهي المطلق الابدي السماوي؟ طبعًا هذا الحق المطلق الالهي يسبب لنا تحدي يومي مع الجميع، لكن صلاتنا ان يعطينا الرب الاله بان نحب بلادنا من كل قلوبنا، من دون اي تمييز عرق او ديني او سياسي، وبدافع محبتنا لشعبنا وبلادنا نكون خاضعين للذي في السلطة، لان كل سلطان على الارض هو من الله، وكما يقول الكتاب هو خادم الله، لذلك علينا ان نخضع ونكون مثال حسن حتى في دفع الضرائب للسلطة المحلية وايضا للدولة، وقبل كل اعتبار ان تكون محبتنا شديدة للجميع، لكي نرى بالفعل خلاص نفوس عظيم من الجليل وحتى النقب، في تل ابيب واورشليم، في الضفة والقطاع.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا