تاريخ مسيحيي الشرق الأوسط (2) من تلاميذ المسيح اليهود الى المسيحيين العرب

بعدما كانت الامبراطورية الرومانية تلاحق المسيحيين وتقتلهم، تعرضت دعائمها الفكرية والروحية الى عزو موجات جديدة من الافكار والايمان المسيحي، وانتصرت المسيحية على كل منافساتها في الامبراطورية...
06 يوليو 2018 - 14:36 بتوقيت القدس

الامبراطور قسطنطين

2. الإمبراطورية البيزنطية بين 324 – 638

بعد سنوات طويلة من الفوضى أخذت الإمبراطورية الرومانية في التفكك وبدأت أسسها المادية تنهار بفعل الحروب الأهلية الطويلة والهجمات الخارجية المتكررة. وبعد أن كانت تلاحق المسيحيين وتقتلهم تعرضت دعائم الامبراطورية الفكرية والروحية الى غزو موجات جديدة من الأفكار والايمان المسيحي.

وقد اعتلى العرش القيصر قسطنطين عام 306م مع امبراطور اخر، ولكنه اصبح حاكما وحيدا على الإمبراطورية بين 324 – 337م؛ هذا القيصر أظهر التسامح للمسيحيين ومنحهم عطفه، وكان قد أصدر أمر ملكي في عام 313م سميّ "مرسوم ميلانو" يقضي بإضفاء الشرعية على الديانة المسيحية، لتصبح فيما بعد الديانة الرسمية الأولى للإمبراطورية المهيمنة على المنطقة (لاحقا، في القرن الثامن عشر، سميت بالإمبراطورية البيزنطية1 على يد الفيلسوف الفرنسي مونتسكايه، وأصبحت تُعرّف بهذا الاسم) وتُظهر الخارطة التالية باللون الأزرق المائل للأخضر المملكة البيزنطية المتحولة من الديانة الوثنية الى الايمان المسيحي.

وفي هذه المرحلة الزمنية أصبح المسيحيون الأغلبية في الشرق الأوسط وقام قسطنطين ببناء كنيسة القيامة في مدينة اورشليم.

وتم في عهد الإمبراطورية البيزنطية انشاء الكنيسة الارثوذكسية اليونانية الشرقية، لتصبح الكنيسة الأكبر في الشرق الأوسط، حيث قام بضم أملاك كثيرة وواسعة من الأراضي لأملاك الكنيسة.

كنيسة القيامة في القدس اليوم
كنيسة القيامة اليوم
هي ليست الكنيسة التي بناها الامبراطور قسطنطين، تلك هدمتها الخلافة الاسلامية الفاطمية

طبعا، لم يصبح المسيحيون الأكثرية في لمحة بصر! بل انتشرت المسيحية وتوغلت رويدا رويدا حتى اقصى أطراف الإمبراطورية الرومانية وانتصرت على جميع الديانات المختلفة في الشرق الأوسط وعلى الديانات اليونانية والرومانية القديمة في الوقت الذي كانت فيه تتضاءل الحضارة الرومانية كلما بعدت المسافة عن روما. لكن في القرن الثالث حصل تغلغل ديني واقتصادي داخل الولايات اللاتينية بصورة سريعة شهدت نهاية الحضارة اليونانية اللاتينية.

وقد تطورت الكنيسة المسيحية في سورية التاريخية2 من ناحية لغوية في اتجاهين، الاتجاه اليوناني على الساحل وفي المدن التي تأثرت بالهلينية والاتجاه السرياني في الداخل، ومع انتشار المسيحية في القرن الثالث فرضت السريانية نفسها. وقد أشار التحول عن اليونانية والعودة الى الآرامية في العصر البيزنطي الى اليقظة الجديدة بين السوريين، وكان تجدد الاهتمام باللغة السامية القديمة دليلا على احياء للوعي القومي كما كان رد فعل ضد الوثنية.

ولما كان السوريون يعرفون عدة لغات فقد اهتم المحامون باللغة اللاتينية، اما الذين عكفوا على دراسة الفلسفة فتعلموا اليونانية، ولكن بقيتهم وخاصة الذي وجدوا خارج المراكز ذات الصفة العالمية فانهم تمسكوا باللغة الآرامية السريانية، اللغة الوطنية.3

وفي الوقت التي تطورت فيه الكنيسة السورية كانت الكنيسة القبطية في مصر تنمو وتتسع، والكنيسة القبطية التي تعود بجذورها التاريخية الى الفراعنة المصريين تمسكت بلاهوت الطبيعة الواحدة حتى يومنا هذا، وكان المصريون يتحدثون اللغة القبطية حتى بعد احتلال المسلمين لبلادهم بعدة قرون، وما زلنا نسمع بعض الكلمات القبطية في اللهجة المصرية المعرّبة الى يومنا هذا. 

ويذكر التاريخ الانباط الذي قطنوا شرقي الأردن وهناك جدل حول جذورهم، فمن المؤرخين من أكد قوميتهم الارامية ومنهم من أكد عربية لغتهم وآرامية كتابتهم ويونانية رومانية فنونهم وهندستهم المعمارية، هؤلاء اعتنقوا المسيحية في القرن الثالث ومن ثم اعتنقوا الإسلام في القرن السابع4

أما الغساسنة العرب الذين هاجروا في بداية القرن الثالث الميلادي من اليمن واستقروا في جنوب سوريا، هؤلاء أيضا اصبحوا مسيحيين خلال القرن الرابع على المذهب الكنيسة اليعقوبية التي تؤمن بالطبيعة الواحدة لكلمة الله المتجسد (منشقين عن الكنيسة الشرقية التي تؤمن بمبدأ الطبيعتين)، وكانوا موالين للروم على الدين المسيحي حتى معركة اليرموك التي وقعت بين المسلمين والروم والتي انتصر فيها المسلمين ودخلوا الشام، بعد هذه المعركة انضم الغساسنة الى حلف المسلمين واعتنق غالبيتهم الدين الاسلامي وكان لهم دورا لاحقا في جيوش المسلمين، بل كانوا بمثابة مقدمة للأحداث الضخمة التي حصلت في المنطقة.

ويقول المؤرخون ومن بينهم الباحث السرياني هنري بدروس كيفا ان نسبة المسيحيين الغساسنة كانت قليلة جدًا بالنسبة الى السريان الاراميين سكان الشرق قبل دخول العرب المسلمين. 

---

الحكم العربي المبكّر بين 638 – 1099م

استطاع العرب المسلمون التغلب على البيزنطيين المنهكين أصلا من الحروب المستمرة مع الفُرس، وفرضوا الجزية على المسيحيين الذين كانوا يتكلمون اللغة الآرامية السريانية واليهود والسامريين، وبدأ العرب المسلمون البدو الذين قدموا من شبه الجزيرة العربية مع عائلاتهم بالاستيطان في الشرق الأوسط بأعداد كبيرة.

ومع الاحتلال العربي هرب الكثير من المسيحيين البيزنطيين من البلاد خوفا على حياتهم، وقُتل الكثير من الذين بقوا في بيوتهم، ومع هذا لم يُجبر الاستعمار العربي السكان المسيحيين في بداية حكمهم على اعتناق الإسلام لأن الضرائب والجزية كانت أكثر أهمية بالنسبة إليهم، لكنهم عملوا على تبديل اللغة السائدة الى اللغة العربية، واعتمد المسيحيون تدريجيا لغة وثقافة المستعمر. 

وبدأت عملية الأسلمة للسكان المحليين في أواخر القرن السابع أو بداية القرن الثامن الميلادي، ولهذا يؤمن المسيحيون في غالبية بلاد الشرق الأوسط ان أبناء وطنهم من المسلمين هم جزء لا يتجزأ من شعبهم. 

وإذا دققنا في شعوب المنطقة سندرك أن العرب البدو الغزاة لا ينتمون للشعب الأصلي المسيحي ولا للمسيحيين المتحولين الى الإسلام المعرّوفون اليوم بـ "العرب"، ولكن مع الوقت اختلط دم المسلمين مع البدو العرب القادمين من شبة الجزيرة العربية بسبب الزواج المتبادل، فانصهروا في بعضهم البعض؛ اما المسيحيون فما زالوا على اصولهم وجذورهم العرقية لعدم اختلاطهم بالغزاة ولا بالمرتدين عن المسيحية لان الزواج بينهم وبين المسلمين كان وما زال الى يومنا هذا مرفوضا اجتماعيا.

ويذكر التاريخ تعرض المسيحيين لمضايقات كثيرة من عدد من الخلفاء المسلمين كان أبرزها فترة الحكم الفاطمي، وأكثرها قسوة كانت بفترة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، حيث عملت الدولة الفاطمية على هدم الكنائس والمعابد اليهودية وتدنيس المخطوطات5 وغيرها من القطع الأثرية والمباني المسيحية، هذا بالإضافة الى تحويل عدد كبير من الكنائس الى مساجد، وهدم كنيسة القيامة بأمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله في 28 سبتمبر 1009م، وأجبر المسيحيون على ارتداء صليب خشبي بعرض وطول نصف متر حول اعناقهم، ومن شدة اضطهادِه للمسيحيين لُقّب بـ "الخليفة المجنون" أو "نيرون الإسلام".

وبسبب اعتداءات المسلمين المستمرة على الحجاج المسيحيين القادمين من أوروبا لزيارة الأماكن المقدسة، وقتل الالاف منهم اثناء قيامهم بالحج الديني الى الأراضي المقدسة، قررت الكنيسة الكاثوليكية التي كان يرأسها بابا الكاثوليك اوربان الثاني عام 1095م، ارسال جيوش أوروبية مسيحية لاتينية (كاثوليكية)6 لتحرير اورشليم والأراضي المقدسة من أيدي المسلمين الغزاة.

قد يهمكم أيضا:

إحتلال العرب لمدينة القدس (3 أجزاء)

ويبقى السؤال الذي نبحث عنه: بالرغم من الشدة التي لحقت بالمسيحيين في الشرق الأوسط، أين اختفى المسيحيون الأوائل من اليهود والاراميين السريان؟! وأين اختفى المسيحيون البيزنطيون؟! ولماذا لم يبقى من المسيحيين في الشرق الأوسط بعد الفي عام سوى المسيحيين العرب؟!

في القسم الثالث من هذه السلسلة سنتطرق الى الحقبة التاريخية الثالثة لمسيحيي الشرق الأوسط. انتظرونا... 


شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا
التعليق على مسؤولية المعلق فقط وهو ليس بالضرورة رأي الموقع
1. رؤوف. 06 يوليو 2018 - 23:10 بتوقيت القدس
يا أخي، حلوا عنا. يا أخي، حلوا عنا.
مهما يكن من أمر الماضي، فأن التاريخ يسير للأمام. لا للخلف. و رَحِمَ اللهُ الحاجة أُم كلثوم حين قالت، "و عاوزنا نرجع زي زمان!!؟ أُل (قل) للزمان، إرجع يا زمان." لا يوجد مثل ذلك. أنا أُشجع كل من يرغب في ترك العروبة أن يفعل ذلك. إذا كنتم لا تُريدون أن تكونوا عرباً، فلكم ذلك. كونوا عجماً أو كونوا ما أردتم أن تكونوا. يا أخي، حلوا عنا. باللهِ عليكم.
1.1. سام 08 يوليو 2018 - 20:45 بتوقيت القدس
شعوب تكتب تاريخها وشعوب يكتبون لها التاريخ
كمسيحي احب ان اتعرف على تاريخنا العريق وان اعرف جذوري ولغة اجدادي. وشخصيا ارفض ان انتحل شخصية غريبة او ان البس ثيابهم لمجرد انهم يريدونني هكذا. لا احد يمنع عنك عروبيتك ولكن لا تمنع الاخرين في اكتشاف الحقيقة!