في الأشهر الأخيرة، تشهد الساحة الغربية تحوّلًا مقلقًا في المزاج العام، حيث لم يعد التضامن مع القضية الفلسطينية محصورًا في البعد الإنساني، بل بات يُمرَّر من خلاله خطاب ديني يُعيد إنتاج الإسلام السياسي في الفضاء الأوروبي. والأخطر أن هذا يحدث في ظل تجاهل تام لضحايا الصراعات الأخرى، خاصة حين لا يكونون مسلمين أو لا تنسجم روايتهم مع السردية الإعلامية السائدة.
لقد دخل آلاف الغربيين إلى الإسلام في الشهور الأخيرة، نتيجة هذا التماهي العاطفي مع الفلسطينيين، خاصة عبر مشاهد المعاناة اليومية التي تبثها قنوات إعلامية تموّلها قطر، مثل “الجزيرة”، والتي لا تخفي ميولها الأيديولوجية المتعاطفة مع حركة الإخوان المسلمين. وبحسب تقرير نشرته صحيفة The Telegraph البريطانية (نوفمبر 2023)، تضاعف عدد معتنقي الإسلام في لندن منذ اندلاع حرب غزة الأخيرة، وكثيرون منهم صرّحوا بأن “موقف الغرب المنافق دفعهم لاكتشاف الإسلام”.
لكن هل هذا اكتشاف حقيقي؟ أم نتيجة تعاطف غير نقدي مع طرف يتم تصويره بوصفه الضحية الوحيدة؟ إن المأساة تكمن في أن الخطاب العام قد أسلم القضية، فبات الفلسطيني يُقدَّم في الإعلام الغربي لا كإنسان مظلوم بل كـ“مسلم مقاوم”، مما ألغى بالكامل التنوّع الديني والثقافي للشعب الفلسطيني، بما في ذلك الحضور المسيحي التاريخي في الأرض المقدسة، الذي تم تهميشه عن عمد.
والأشدّ إيلامًا أن بعض القساوسة المسيحيين في الغرب انساقوا خلف هذا التيار، وبدأوا يؤيدون خطابًا دينيًا انفعاليًا لا يميز بين مقاومة مشروعة وإرهاب ممنهج. فتراهم يشاركون في مظاهرات ترفع صور رموز إسلاموية متطرفة، دون أي وعي بأنهم بذلك يخذلون إخوانهم المسيحيين في الأراضي المقدسة الذين تم دفعهم تدريجيًا إلى الهامش، إن لم نقل إلى الهجرة القسرية.
والمفارقة أن بعض الوطنيين المسيحيين في إسرائيل وفلسطين، بدافع التضامن والحرص على العدالة، يساهمون في أسلمة القضية الفلسطينية، حين يروّجون لرواية تُحمّل إسرائيل وحدها مسؤولية الصراع، دون أن يذكروا التهميش والإقصاء الذي يعانيه المسيحيون داخل المجتمع الفلسطيني ذاته. هذا التحيّز في السرد يُصدر إلى الغرب صورة مشوشة ومجتزأة، تُظهر المسلمين كضحايا مطلقين، والمسيحيين كأقليات تعيش بسلام بينهم، بينما يتم تجاهل الحقائق المؤلمة على الأرض. وبهذا، يتحول الخطاب السياسي الذي يُفترض أن يكون منصفًا وشاملًا، إلى أداة تُعزز من حضور الإسلام في الوعي الغربي كدين مسالم ومظلوم، على حساب واقع أكثر تعقيدًا وتنوعًا يُغفل عمدًا أو جهلًا.
ومن أبرز الأمثلة على هذا الخطاب، وثيقة كايروس فلسطين التي صدرت عام 2009 من قِبل قادة مسيحيين فلسطينيين، والتي رُوِّجت دوليًا كنداء مسيحي للعدالة ومقاومة الاحتلال. ورغم طابعها الوطني المعلن، إلا أن استخدامها لغة لاهوتية مركّزة، وغياب الإشارة إلى واقع التهميش الذي يعانيه المسيحيون داخل المجتمع الفلسطيني، جعلا منها وثيقة تُستخدم في الغرب لتغذية سردية دينية تُقدِّم الإسلام كرمز المقاومة الأساسي، وتُقصي التعددية الدينية والثقافية للشعب الفلسطيني. وقد تم تبنّي هذه الوثيقة في عدد من الكنائس الغربية، مما ساهم في تعميم رؤيتها ضمن خطاب التضامن الديني مع الفلسطينيين.
إن هذا التبدل في خطاب التضامن لا يُعد انحيازًا سياسيًا فحسب، بل يعكس إعادة تشكيل مقلقة للوعي الغربي تجاه الدين، حيث يتم الترويج للإسلام، في نسخته السياسية والرمزية، كحركة تحرر عالمية، بينما تُصوَّر المسيحية إما كدين استعمار أو صمت غير مبرر.
وفي الوقت الذي يُذبح فيه العلويون والإيزيديون والمسيحيون في الشرق الأوسط على يد جماعات متطرفة، لا نكاد نسمع صوتًا غربيًا واحدًا يرفع شعار “حقوق الإنسان” من أجلهم. بل تُعامل هذه الجرائم بصمت بارد، لأن مرتكبيها لا يخدمون الرواية الإعلامية التي صممتها قوى إقليمية تمتلك أذرعًا دعائية قوية ومؤثرة.
نحن إذن أمام معادلة مختلّة: ضحية واحدة معترف بها، ودين واحد يُسوَّق كعنوان للمظلومية، وقضية واحدة يُسمح بتضخيمها على حساب باقي القضايا. وما هو أخطر من كل ذلك، أن الغرب بات يبتلع هذا المشهد دون فحص، مما يفتح الباب لأسلمة تدريجية للخطاب السياسي والاجتماعي، تُهدد توازن المجتمعات، وتُفرغ مفاهيم التضامن والعدالة من معناها الحقيقي.