مقاومة الاحتلال، لاهوت المقاومة، الدفاع عن الحق، النخوة الوطنية كل هذه وغيرها من الشعارات التي نسمعها في السنوات الاخيرة وهي تدعو وتحث المسيحيين العرب الى رفع الاصوات الوطنية وتحريك الكنيسة لتسير مع باقي فئات الشعب بالتيار الوطني ومقاومة الظلم على حد تعبيرهم. هناك من اخذ بالتطرف أكثر بتصوير هذا الخط كأنه جزء من الكينونة المسيحية واضعًا مصطلحات غريبة عن الكتاب المقدس، كالمسيحية الفلسطينية واللاهوت الفلسطيني. انهم يصوّرون لنا أن الطريق الأنسب لخدمة الشعب الفلسطيني هي الوطنية أو باسمها الجديد الوطنية المسيحية وكأنها الطريق الوحيد للعيش بسلام.
لكن هل كلمتا المسيحية والوطنية تتوافقان معًا أم هي شعارات رنانة لكنها معدومة الدعم الكتابي وخليط الزيت بالماء او الخزف بالحديد أيسر من خلطهما معًا في شخصية واحدة؟
وهل الوطنية هي الكلمة الصحيحة لوصف أنفسنا بها عندما نعمل من اجل الحق والعدل؟
يقوم المسيحيون الوطنيون برفع العلمين معًا وكأنهما خلقا ليكونا واحدًا ومَن يفصلهما ليتمسك بالمسيحية وحدها، يصبح خائنًا او على الاقل مسيحيًا ضعيفًا ودون المستوى.
ربما عزيزي القارئ يخطر في نفسك، الوصف شامل لجميع المؤمنين الوطنيين وهذا غير صحيح وغير عادل. عذرًا، أنا لا أتكلم عن الوطنيين أنفسهم بل عن فكر (ايدولوجية) وعن وجهة نظر.
لنعد لسؤالنا الأساسي، هل من الممكن ان يكون مؤمن مسيحي قد قبلَ طريق الله الوحيد للخلاص وينسب لنفسه الوطنية؟
من اجل الإجابة عن هذا السؤال علينا تعريف الوطنية، كما من المهم جدًا للقارئ العزيز ان يعي ما هي الوطنية التي أتكلم عنها لكي نكون على أساس مشترك.
Nationalism
"الولاء والإخلاص لأمة محددة: شعور الوعي الوطني لتمجد أمة واحدة فوق كل الأخريات، والتركيز بشكل أساسي على تعزيز ثقافتها ومصالحها فوق تلك الدول الأخرى أو مجموعات فوق وطنية" (Merriam-Webster)
“المشاعر والطموح والوعي هي شروط لتقيم القومية، أو قيم الدولة تكون فوق كل اعتبار.” (Marshall، 2009)
ارنست غلنر (Ernest، 1983) يضع شرطا أساسا للوحدة الوطنية "الوحدة السياسية يحمل الوحدة السياسية والوطنية هو واجب لانسجامها".
Patriot
"الشخص الذي يدعم بلده بقوة وعلى استعداد للدفاع عنها ضد الأعداء أو المحقرين." (Soanes و Stevenson، 2005)
"الشخص الذي يحب ويدافع بقوة او يقاتل من اجل بلده" (Merriam-Webster)
Patriotic، "التعبير عن الإخلاص والدعم القوي لبلد واحد" (Soanes و Stevenson، 2005)
إذًا حديثي عن الوطنيين وليس الفلسطينيين بالتحديد بل كل وطني لأي دولة بحسب التعريف أعلاه هو من يهتم بمصالح دولته فوق كل مصلحة، فهل هذا التعريف يتوافق مع الكتاب المقدس؟ في حالة اعتبرت السماء وطنك فالجواب هو نعم، وهكذا ستخدم سيدًا واحدًا (متى 6: 24) ستكون غيورا على مملكة الله التي نحن جميعا جزءًا منها والتي تتجاوز حدود اللغة والمكان والزمان ولكن هل من الممكن ان تكون لدي وطنيتين سماوية وأرضية؟ كما أظهرت ترجمة كلمة Nationalism، الوطني يجعل من مصالح دولته (الأرضية) فوق مصالح الدول الأخرى وهذا يتنافى تماما مع ما علمنا إياه الرب يسوع الذي دعانا لنخدم جميع الأمم (مر 16: 15) دون الاهتمام بدولة على حساب الأخرى، فانه رفعنا من الانحصار في شعب واحد لنهتم بجميع الشعوب اذ انه أحب الجميع ليخلص الجميع (يوحنا 3: 16) فكيف لنا إن أردنا ان نتمثل به أن نفضل ما يخص فائدة دولتنا على حساب الأخرى. حتى من يعتبر نفسه Patriotic فسيكون أيضا كما أظهر سابقا داعمًا لبلد واحد فأي منها سيختار؟ بلده السماوي ام الأرضي؟
لقد قدّسنا الرب لنفسه أي جعلنا خاصته (يوحنا 15: 19) فكيف لنا أن نضرب بعمله عرض الحائط لنعود للعالم ونشاركه لا بل نشاركه بانسجام. الوطن الأرضي عالميٌ هو، أي أن اهتماماته أرضيه دنيوية وكيف لي أن اشاركه اهتمامه والرب قد حذرني من أن أحب العالم او الأشياء التي في العالم (1 يوحنا 2: 15) بل وأضاف بتحذيره ألاّ أكنز في العالم (مت 6: 19). فالعمل تحت لواء الوطنية يكون من الناحية الفعلية، عمل داخل وعاء انصهاري يجمع في داخله جميع التيارات الايدولوجية التي تدعم الهدف المركزي وهو بناء الوطن. في وعاء الانصهار هذا تعطى الأفضلية الى الاغلبية التي تستحوذ على الطابع العام وهذا بالضبط ما نراه في المظاهرات الوطنية التي تتحول الى مظاهرات اسلامية وطنية.
هنا يأتي السؤال، هل سأرضخ لهذا الطابع من اجل الوحدة الوطنية؟ اليس من واجبي أن أكسر نير الشراكة مع التيارات التي تكفّرني وتقصيني خارج التأثير العام. وبذكر نير الشراكة، الم يحذّر الكتاب من ان نكون تحت نير مع غير المؤمنين (2 كو 6: 14)؟!
ولكن أكثر ما يدفعني للاستغراب من الفكر الوطني هو الربط بين الوطنية وبين الاهتمام بالشعب نفسه، واحتكار المطالبة بالعدل للوطنيين، أي إذا اردت المطالبة بالعدل، عليك الانضمام إليهم وكأن الكتاب المقدس قد خلا من العدالة الى ان اقيمت منظمة وطنية لتعلّمنا ذلك.
أن دوافع رفضي للظلم مستمدة من تعاليم الكتاب المقدس، من تعاليم المسيح الذي رفض الظلم على كل صوره (اش 42: 1- 3) والذي رفض الانخراط بالمقاومة السياسية الوطنية انى ذاك وارتكز بالمصلحة الروحية لشعبه (لوقا 13)، وهذه الدوافع نفسها التي تغذّي رفضي لقتل او ظلم أي انسان حتى لو كان هذا الشخص عدوّي. على خلاف ذلك الفكر الوطني الذي يحرّك الانسان للدفاع عن حقوق شعبه ووطنه على اساس انتمائه العرقي والتاريخي مما يجعله منحصرًا داخل دائرة صغيرة جدًا. هذا ما يرفضه بولس الرسول في رسالته لأهل رومية في الفصل التاسع، الذي يؤكد على محبته واخلاصه لشعبه اليهود ولكن مع كامل محبته لم يحصر خدمته في اليهود بل خرج الى غير المعروف، الى الآخر ليكون خادمًا لهم من اجل الوطن الحقيقي، الوطن السماوي.
في النهاية، عزيزي القارئ كما أوضحت قبلاً، فالوطنية تشابه قليلاً حياة الايمان بربنا يسوع المسيح لكنها تختلف معه في الأغلب، لذلك استشهد بالكلام الذي سجله لنا الروح القدس على يد يوحنا الحبيب 3: 31 "الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع، والذي من الأرض هو أرضي، ومن الأرض يتكلم. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع".
الوطنية هي من الارض وتهتم بما للأرض، ومن أراد ان يخدم أبناء شعبه وجيرانه أعداءه ام أصدقاءه على سواء، لا بد له ان يتمسك بوطنيته الحقيقية ألا وهي الوطنية السماوية، وبالتالي ان يدافع عن الحق بدوافع صحيحة وقلب طاهر امام الله. لذلك لنكن مراقبين أنفسنا لئلا بعد ما كرزنا للأخرين نصير أنفسنا مرفوضين. بنعمة الرب سيكون مقالي المقبل عن خدمة الشعب بحسب الفكر الكتابي.
مراجع
Catherine Soanes Oxford scholarship Stevenson. (2005) Oxford dictionary of English. Oxford : Oxford University Press.
Gellner Ernest. (1983). Nations and Nationalism. New York: Oxford University Press.
John Scott and Gordon Marshall. (2009). A Dictionary of Sociology. Oxford University Press.
http://www.merriam-webster.com/dictionary