يا سيد أأنت تغسلُ رجليَّ؟

حين غسل السيد أقدام تلاميذه، لم يكن مجرّد تصرّف عابر، بل إعلان صادق عن جوهر خدمته وروح ملكوته. لقد انحنى الملك ليغسل أقدام أتباعه، مكرّسًا درسه الأخير في التواضع، والطهارة، والمحبة العملية. إنها دعوة صامتة، لكن قويّة، للكنيسة ولكل مؤمن أن يسلك على نفس الدرب، لا بالكلام، بل بالفعل.
قبل 16 ساعة
يا سيد أأنت تغسلُ رجليَّ؟

«يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!» (يوحنا 13: 6).
كان اليهود يستعدون للاحتفال بعيد الفصح، وكانت شهوة يسوع أن يتناوله معهم، فقد قال: «شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ»، ولأنَّه كان عالمًا أن ساعته قد أتت، أكمل حديثه لتلاميذه قائلًا: «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ». (لوقا 22: 15-16)، لكنَّه مع ذلك كان قد «أَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: «اذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ» (لوقا 22: 8)، وقد أعدا عِلِّيَّةً وجهزاها لهذا الأمر، وقد دار في هذه العِليّة عددًا من الأحاديث التي خصَّ بها يسوع تلاميذه، وكانت لهم حريّةً يسألوه ما أرادوا، وقد بدأ بطرس هذه الأسئلة، التي سجَّلها البشير يوحنا، قائلًا: «حِينَ كَانَ الْعَشَاءُ .. قَامَ (يسوع) عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا. فَجَاءَ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ. فَقَالَ لَهُ ذَاكَ: «يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!» (يوحنا 13: 2-6).

كان التلاميذ بحاجة لغسل أقدامهم، فقد كان رجال العالم القديم يستخدمون الصنادل في أرجلهم، وكانت الطرقات والشوارع ترابيّة، سُرعان ما تتسخ الأقدام، وكان يجب على المضيف أن يُعدَ مَن يغسل أقدام ضيوفه، وكانت العادة أنَّ مَن يقوم بهذا الإجراء هو الأقل مرتبة بين العبيد، حيث كان المُعتاد أن يَصُبّ العبد ماءً ليغسل أقدام الضيوف، ثم يُجففها بمنشفة يتزر بها، ولأنّ رحلة يسوع وتلاميذه كانت نهارية، وطويلة نوعًا ما، من بيت عنيا إلى أورشليم، فاحتاجت أقدامهم لمَن يقوم بغسلها، وحيث لا خَدَمَ في العِليّة، يقوم بهذه المُهمة، والتلاميذ يتصارعون فيمن يكون الأعظم فيهم في ملكوت الله (راجع متى 18: 1؛ لوقا 22: 4)، قام يسوع بهذه المهمة الوضيعة، التي فاجأت التلاميذ وأخرست ألسنتهم من الدهشة، فلم ينبتون ببنت شفة، لأنَّهم كانوا يُدرِكون إذا لم يكن هناك خادمًا أو عبدًا لأداء هذه الخدمة، فإن واجب غسل أقدام الحاضرين يقع على عاتق الشخص الأدنى مرتبة في الحشد، فكيف لسيدهم، أنَّ يقوم بمثل هذه المهمة؟ لقد قام يسوع بأشياء كثيرة رائعة خلال خدمته على الأرض. لكنَّ عمليّة غسل أقدام التلميذ هذه كانت أكثر الأشياء تواضعًا قبل ذهابه إلى الصليب، لقد كان عالمًا أنَّ «الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي» (يوحنا 13: 3)، لكنَّه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، وخلع ثيابه، ليغسل بيديه الطاهرتين، الأقدام المُتسخة للإنسان الخاطئ. 

من البديهي، في تلك الليلة، أنَّ بطرس لم يكن أول مَن غسل يسوع رجليه، لكنَّه كعادته في الشجاعة والإقدام، كان أول مَن سأل يسوع: «يَا سَيِّدُ أَنْتَ تَغْسِلُ رِجْلَيَّ!» (يوحنا 13: 6)؛ وقد كانت إجابة يسوع: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ». كان سؤال بطرس، ومحاولة رفضه أن يغسل يسوع رجليه (يوحنا 13: 8)، ينم عن دهشة، مما فعله يسوع، وفي ذات الوقت من قبول مَن سبقوه من التلاميذ لما قام به المسيح، فكان سؤاله استنكاريًا، كيف للسيد أن يغسل أرجل تلاميذه، كان من المنطقي أن يغسل التلميذ قدمي معلمه، وليس العكس، وكان في إجابة يسوع، تأكيد أنَّ ما يقوم به، يتنافى مع المنطق البشري، ووفق هذا المنطق فإنَّ بطرس لن يفهم ما يقوم به يسوع الأن، ولكنَّه بالتأكيد سيفهمه فيما بعد، أي بعد موت المسيح وقيامته.

على أنَّ بعض المفسرين يرون أنَّ سؤال بطرس، يُعبِّرُ عن كبرياء مُقنّعة، تدل على محبة ذات كامنة في القلب، فحاول أن يُثبت للتلاميذ أنَّه أكثر احترامًا للسيد من جميعهم، كما أنَّ احترام بطرس لسيده، ظاهر من تنبيره على المخاطب: «أنت»، وعلى ضمير المتكلم في: «رجلي». غير أنَّه احترام زائف. فهو وليد عدم الاحترام الحقيقي (راجع، متى 16: 22). لأنَّ أثبت علامة للاحترام، هي الطاعة. في حين يرى البعض الأخر، أن اعتراض بطرس هذا بعض فيه ما يستحق المدح، من الإحساس بالتواضع وإكرام المسيح والمحبة له. وفيه بعض ما يستحق الذم، وهو أنه يقدم النصح للمسيح! 

بعد أنْ أوضح يسوع لبطرس أهميّة ما يقوم به، وربط الاغتسال، بالنصيب الذي يناله المُغتسِل مع المسيح، قال بطرس ليسوع: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ رِجْلَيَّ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً يَدَيَّ وَرَأْسِي»؛ لكنَّ يسوع قال له: «الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ» (يوحنا 13: 9-10)؛ أوضح يسوع أنَّ الذي اغتسل، نال تطهيرًا كاملًا، ولا يحتاج إلِّا إلى غسل رجليه فقط، كان «الاغتسال أو الاستحمام» عادة يهوديّة تسبق حضورهم أي مناسبة أو احتفال، ولكن وصولهم لبيت المضيف، كانوا يكتفون بغسل الأرجل، وهكذا استخدم العهد الجديد في اللغة اليونانيّة ثلاث كلمات عن «الاغتسال»، الأولى «νίπτω وتُنطق niptō»، وتُعبِّر عن غسل جزء من الجسد، كاليدين أو الرجلين (راجع: مرقس 7: 3)، والثانية تُعبِّر عن الاستحمام كاملًا «βαπτίζω وتُنطق baptizo»، والثالثة تُعبِّر عن غسل الملابس «πλύνω وتُنطق plunō» (راجع: رؤيا 7: 14؛ 22: 14)؛ إنَّ الغُسل بمعنى التطهير الكامل، والذي أشار إليه المسيح بقوله: «الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ»، يُشير إلى غُسلِ التجديد، ونوال التبرير الإلهي، وهو عمليّة لا تتكرر ثانية في حياة المؤمن، أمَّا غسل القدمين، فهو يُشيرُ إلى «التقديس» الغسل المستمر في حياة المؤمن، حينما يأتي إلى ينبوع المطهر بين حين وآخر، فينال تطهيرًا مما علق به من غبار الطريق، وتقديسًا لحياته إلى التمام. كما أنَّ ما عمله يسوع مع تلاميذه، كان يقصد به أن يُعلَّمهم درسًا في القداسة، ودرسًا في التواضع.

عندما غسل يسوع أقدام التلاميذ، كان يعلّمهم درسًا عن القداسة، وآخر عن التواضع، لقد قدَّم المسيح مثالًا لنا، وغيَّر النموذج العالمي للعظمة والقيادة، حيث العبد يخدم سيده، إلى نموذج ملكوت الله، حيث تكمن العظمة الحقيقيّة في الخدمة، الملك يركع أمام رعاياه، ويغسل أقدامهم، وقد قال يسوع: «أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يوحنا 13: 15)، فهل تحتاج كنيسة اليوم لهذا الدرس؟ هل تحتاج لمراجعة أولوياتها، والنموذج الذي تتبع، هل ترى العظمة في الإخلاء، والتواضع ورؤية المتضعين والمحتاجين والمُهمشين؛ إنَّ ما عرفه وأدركه يسوع، ساعد فيما قام به وعمله، وهكذا فإنَّ معرفة الكنيسة لهويّتها، سيساعدها حتمًا في عملها، والاقتداء بنموذج ومثال المسيح.

رسائل تلغرافية
• العمل أهم من العِلم والمعرفة، كان يسوع «وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجَ وَإِلَى اللَّهِ يَمْضِي. قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ وَخَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِراً بِهَا» (يوحنا 13: 3-5)؛ كان يسوع يعلم مجده، ويعلم مَن هم له، ويعرف الخائن الذي سيسلمه، والتلميذ الذي سينكره، لكنَّه مع ذلك، قام وعمل، وقدَّم تعليمًا عمليًا عن القداسة التي ينبغي أن يكون عليها تلاميذه، وأهميّة التواضع وخدمة الآخرين. 
• قد تبدو معاملات الله معنا في هذا العالم، ألغازًا لا نفهمها، حينًا نتعرض للضيقات والأزمات، وحينًا نفقد الصحة والمال، وربما الأهل والأصدقاء، فترتبك حياتنا ونتساءل كبطرس وسائر التلاميذ، لكننا حينها لا نحتاج إلَّا أن نستمع لمِا قاله يسوع لبطرس: «لَسْتَ تَعْلَمُ أَنْتَ الآنَ مَا أَنَا أَصْنَعُ وَلَكِنَّكَ سَتَفْهَمُ فِيمَا بَعْدُ» (يوحنا 13: 7)؛ فيجب أن نُسلِم لله بلا شكٍ، وبلا تذمرٍ، ونحن نثق في ملء محبته، وخطته الرائعة لحياتنا.
• يصعب تعليم الأشخاص الذين يعتقدون أنَّهم يعرفون أكثر مما يعرفونه.
• الله يدعونا للتناول من مائدته، لأنَّه طهرنا وغسَّلنا بدمه، مرة واحدة وإلى الأبد، لكنَّه يدعونا لأن نغسل أقدامنا مما عَلِق بها من الخطية المحيطة بنا بسهولة، وذلك يتم بالغسل المستمر والتطهير بكلمة الله، والعيش في القداسة التي يريدها لنا الله.
•  كان يسوع يعلم أنَّ تلاميذه طاهرون، ولكن ليس كلهم، لأنَّ يهوذا كان موجودًا وسطهم، لم يكن من المُختارين، فلم يكن من الطاهرين المُبررين، وهكذا لم يثبت للمنتهى، أمَّا تلاميذ يسوع، بطرس، توما، وغيرهم، عندما تلوثوا بخطية العالم، رحَّب بهم الله ولم يدعهم يسقطون، لأنَّ دم يسوع طهّرهم من خطاياهم، وضمن لهم حياة أبدية، وهكذا كل أبناء الله المُختارين.
• الطريقة الوحيدة لنكون في علاقة مع الله، هي الاغتسال بدم المسيح، والطريقة الوحيدة التي تساعدنا لأن نحتفظ بشركتنا معه، هي الاغتسال بكلمته.
•  إنَّ المحبة، والخدمة والتواضع، دلائل حقيقيّة على انتمائنا ليسوع، ولقد ضرب بنفسه مثالًا لنا، فقد قضى وقتًا مع تلاميذه، عشيّة صلبه وكان هذا في حد ذاته دليلًا على حبه لهم .. إن كنت تحب شخصًا ما، فستريد أن تكون معه، وتقضي الوقت معه، وتخدمه بتواضعٍ.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا