إشارات إلى العهد القديم – ج13: يوحنّا المعمدان إيليّا الجديد، ضريبة الدرهَمَين

وسأله تلاميذه ‏قائلين: فلماذا يقول الكتبة: إنّ إيليّا ينبغي أن يأتي أوّلًا؟ فأجاب يسوع وقال لهم: إنّ إيليّا يأتي ‏أولًا، ويرُدّ كلّ شيء. ولكني أقول لكم أن إيليّا قد جاء ولم يعرفوه، بل عَمِلوا به كل...
09 فبراير 2016 - 21:39 بتوقيت القدس

وصلت بالبحث في الإنجيل، بتدوين متّى، إلى الأصحاح السابع عشر. وفيه بحسب تسلسل ‏الآيات 2 تَجَلِّي السيد المسيح 10 يوحنّا المعمدان وإيليّا 17 إبراء المصروع 19 قوّة الإيمان ‏‏22 إنباء المسيح تلاميذه مرة ثانية بموته وقيامته 24 تأدية الدِّرهَمَين لنفقات الهيكل.‏

ومعلوم أن عددًا من هذه الأحداث قد نجده مدوَّنًا في إنجيل مرقس أو إنجيل لوقا أو كليهما، ‏وقد نجده أيضًا في إنجيل يوحنّا، لأنّ كلًّا من الأربعة كتب إنجيله، بإرشاد الروح القدس، إلى ‏جهة معيَّنة. فمثالًا من هنا: حادثة التجلّي؛ مدوَّنة في مرقس\9 (أي إنجيل مرقس- الأصحاح ‏التاسع) وفي لوقا\9 أيضًا.‏
وبالمناسبة؛ كتب مَتّى إنجيله بشكل عام إلى الأمم كلِّها (متى 28: 18-20) وبشكل خاصّ إلى ‏اليهود الذين آمنوا بالرب يسوع، كأنما قدَّم لهم التوراة الجديدة (الإنجيل) وموسى الجديد (يسوع ‏المسيح) عِلمًا أنّ بعض اللاهوتيّين، حسب إحدى دراساتي، قسَّموا إنجيل متّى إلى خمسة ‏أقسام، لا أستطيع تذكّر عناوينها الآن، لكنّها حسب موقع الكلمة.نت- إنجيل متّى: [دستور ‏ملكوت الله، واجبات القادة، أمثال الملكوت، الغفران والتسامح، مجيء ربّ الملكوت] في مقابل ‏أسفار التوراة الخمسة: التكوين+ الخروج+ اللاويّين+ العدد+ التثنية.‏

ردًّا على نقد ‏

كتب أحد النُّقّاد الإسلاميِّين تعليقًا على إحدى مقالاتي المنشورة على فيسبوك موقع لينغا ما ‏معناه: (أيّ إنجيل نقرأ فإنّ "الأناجيل" كثيرة؟) انتهى.‏
والجواب: إنّ الإنجيل واحد! لكنّ المدوِّنِين أزيد مِن واحد؛ كلّ منهم كتب عن السيد المسيح في ‏وقت ما من زاوية ما إلى جهة ما، مثلما يصف أربعة أشخاص شجرة واحدة وهم ينظرون ‏إليها من أربع جهات لتغطية أوصافها. ولهذا فسَّر الإنجيل نفسه بنفسه. فإذا رأيت عند أحدهم ‏معجزة مدوّنة أيضًا عند آخر، فهاتان شهادتان على أنّ المعجزة صحيحة، لأنّها مرئيّة من ‏زاويتين أو ثلاث. عِلمًا أنّ شهادة شخص واحد لا تكفي أمام القضاء. ومن المستحيل هندسيًّا ‏أن تتطابق نظرتان من جهتين مختلفتين وخلال وقتين مختلفين أيضًا، لكنّ هذا لا يعني أن ‏النظرتين متناقضتان، بل كمّلت إحداهما الأخرى لوصف الشجرة.‏

ـــ

وفي مناسبة أخرى؛ علَّق ناقد إسلامي ثانٍ، مستنكرًا قول المسيح على الصليب {يا أَبَتاهُ، اغْفِرْ ‏لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذا يَفْعَلُونَ}+ لوقا 23: 34 فكتب ما معناه، إذا أسعفتني الذاكرة: (لقد ‏انفرد لوقا بتدوين هذه الآية، فقام اليهود بتحريف إنجيله، والهدف: تبرئة اليهود من دم المسيح) ‏انتهى.‏
والجواب: يهمّني أن أعرف أوَّلًا؛ هل آمنتَ أيّها الإسلامي بصَلب المسيح، على خلاف ما ‏زعم القرآن في سورة النساء:157؟ هذا بغضّ النظر عمّا قال المسيح وهو على الصليب. فإن ‏آمنت فليكن لك بحسب إيمانك ولطفًا العودة إلى آية متّى 9: 29 وما سبقها. أمّا إذا بقيت على ‏ما أنت فيه من جهل بالعقيدة المسيحيّة فلا أظنّك جاهِلًا غفران السيد المسيح لأعدائه وتسامحه ‏معهم ومع سائر الخَطَأة بقوله: {أحِبّوا أعداءَكم...} فالسيد المسيح فَعَل ما قال في أصعب ‏الظروف! كما أنّ خطّ الوحي، في الإنجيل كلّه، متطابق مع منهج السيد المسيح في المحبة ‏والغفران سواء في سِفر لوقا وفي غيره. واعلم أن السيد المسيح ما أتى إلى العالم لِيَدِينَ الْعَالَمَ ‏‏(يوحنّا 3: 17) بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ.‏
وتاليًا؛ إذا كنت من هواة التفتيش، أرى الأحرى بك أن تفتِّش عن داعية كَذّاب قال شيئًا ولم ‏يعمل به بل فعل على عكس ما قال، ففرض قولَهُ على غيره ولم يطبّقه على نفسه.‏

ثانيًا: دعني أضِفْ إلى معلوماتك الشائكة أنّ لوقا الإنجيلي لم يكن أصلًا من الشهود على ‏صلب المسيح، إنّما بَدَأ بإنجيله هكذا {إذْ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور الْمُتَيَقَّنَةِ ‏عندنا، كما سلَّمَها إلينا الذين كانوا منذ البدء مُعاينِين وخُدّامًا للكلمة، رأيتُ أنا أيضًا إذ قَدْ تَتَبَّعْتُ ‏كل شيء من الأوَّل بتدقيق، أنْ أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوُفِيلُسُ، لتعرف صحّة ‏الكلام الذي عُلِّمْتَ به}+لوقا 1: 1-4‏
فعليك التأمّل جيِّدًا في معاني كلمات هذا النَّصّ. والأفضل لك الاستعانة بتفسير مسيحي إذا ‏أردت أن تصبح واحدًا من الباحثين عن الحقّ. أمّا إذا اعتراك شَكّ فإنّ ما يدعو إلى الاطمئنان ‏هو أنّ آباء الكنيسة قرَّروا صحّة إنجيل لوقا بالإجماع، بما في نتائج الصحّة من سلامة وأمانة ‏ومصداقية ودقّة. وقرار أولئك الآباء قد تمّ اتّخاذه بإرشاد الروح القدس. عِلمًا أنّ إرشاد الروح ‏القدس لا يُضاهيه إرشاد. فمِن أثمار إرشاد الروح القدس: شهادة أولئك الآباء على صحّة ‏جميع أسفار الكتاب المقدَّس وعلى قدسيّتها. فلا مجال في النهاية لأيّ افتراء على الكتاب ‏المقدَّس ولن تنفع أيّة محاولة للطعن في قدسيّته.‏

ثالثًا: إنّ توجيه أصابع اتّهام إلى اليهود في كل صغيرة وكبيرة ليس من العدل بشيء ولا من ‏حجّة مُقنِعة، إنّما من جهلك، أي أنّ العيب فيك، ما لم يكن مِن حَسَدك أو خبثك وغيره. فلا ‏أنت ولا واحدَ مِن مرجعيّتك ولا واحد من المُلحِدين الغربيِّين ولا سيَّما الذين نقل الدجّال أحمد ‏ديدات وغيره مِن نقدِهم، استطاع إثبات وجود تحريف ما في الكتاب المقدَّس أو تزييف أو أيّ ‏تدخّل بشري مزعوم. ومعلوم أن الله القدير قادر على أن يحفظ كلامه ويسهر عليه: {فقالَ ‏الرَّبُّ لِي: أَحْسَنْتَ الرُّؤْيَةَ، لأَنِّي أَنا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لأُجرِيَها}+إرميا 1: 12‏

رابعًا: لدى اليهود كتاب مقدَّس وهم مقتنعون به. وقد انتشر الإنجيل بعد كتابهم بفترة. فإذا أراد ‏أحدهم- افتراضًا- تحريف كتاب ما أو تزييفه فإنه يؤلِّف كتابًا ما ليغيّر ما سَبَق لا ما لحِق! لكنْ ‏مَن يكون المحرِّف اليهودي المفترَض؟ أين "إنجيله" وبأيّة لغة كتبه؟ ماذا حرَّف أيضًا؟ أين قام ‏بالتحريف المزعوم ومتى؟ ما مركزه دينيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا؟ لماذا لم يُحرِّف ما ظنّ ‏النّقّاد الإسلاميّون به مُخالِفًا الأخلاق العامّة ممّا في كتابه المقدَّس؟ وإليك مفاجأتين جديدتين؛ ‏الأولى: أين سيجد المخطوطات الأصلية وكيف يخترق نظام المحافظة عليها ومَن الذي يسمح ‏له بتحريفها وما الذي يضمن له سهولة التحريف؟ والثانية: لماذا يحاول تحريف إنجيل لوقا ‏الموجَّه إلى أمم وثنيّة لم تعرف الله ولا يحاول تحريف إنجيل كتبه يهوديّ مِن أبناء جلدته ‏‏(متّى الإنجيلي) ووجَّهه إلى يهود- عَبَدة الله- ممّن آمنوا بالمسيح {ابن الله} لِما في هذا الإنجيل ‏مِن أخبار لم تصبّ في مصلحة اليهود؟
أخيرًا؛ يؤسفني القول إنّ الجهل مطبق على تعليقات الإسلاميّين، ممّا تلقّيت منهم حتّى الآن؛ إذْ ‏تركوا الكتاب المقدَّس، كلام الله المدوَّن لخلاص النفوس، ولهثوا وراء نسخ الانتقادات الموجَّهة ‏ضدَّه للصقها على صفحات المواقع المتسامحة ولا سيّما المسيحية.

ـــ ـــ ـــ

الإشارة الأولى

وجدت في الأصحاح الـ 17 إشارتين إلى العهد القديم؛ أولاهما في التالي: {وسأله تلاميذه ‏قائلين: فلماذا يقول الكتبة: إنّ إيليّا ينبغي أن يأتي أوّلًا؟ فأجاب يسوع وقال لهم: إنّ إيليّا يأتي ‏أولًا، ويرُدّ كلّ شيء. ولكني أقول لكم أن إيليّا قد جاء ولم يعرفوه، بل عَمِلوا به كل ما ‏أرادوا}+متّى 17: 10-12 والإشارة إلى الوارد في سِفر مَلاخي: {هأَنَذا أُرسِل إليكم إيليّا النبيّ ‏قبل مجيء يوم الرب...}+ملاخي 4: 5‏
وإليك تفسيرًا مسيحيًّا- بتصرّف: [كان لكتبة اليهود معرفة نظريّة، فقد فهموا من النبوّات أن ‏إيليّا يسبق مجيء المَسِيّا. جاء لكنهم لم يعرفوه ولا قبلوه، إنّما عملوا به ما أرادوا. مَن إيليّا ‏الذي سبق المسيح إلا يوحنّا المعمدان، إذْ فَهِم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنّا المعمدان (بالآية ‏التالية) لقد جاء يوحنّا بروح إيليّا (أنظر-ي أيضًا لوقا 1: 17) لا بمعنى أنّ يوحنّا تقمَّص ‏روحَ إيليّا، إنما حمل فكره الناري وغيرته الملتهبة على مجد الله، وحياته النُسكيّة في البرّيّة، ‏ليمهّد الطريق بالتوبة من أجل المَسِيّا المخلّص. فإنْ كان سيِّدنا قد جاء مترفّقًا بنا ولطيفًا للغاية ‏مشتهيًا خلاصنا، يلزمنا أن يدخل إيليّا الغيور إلى حياتنا ليهيّئ القلب للمخلِّص بالمناداة بالتوبة. ‏إن كان التجلّي هو إعلان ملكوت الله السماوي فينا فلا طريق لهذا التجلّي فينا بدون إيليّا، أي ‏التوبة]- بقلم القُمُّص تادرس يعقوب.‏

الإشارة الثانية

هي في قول اليهود لبطرس: {أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ الدِّرْهَمَين؟}+متّى 17: 24 والإشارة إلى ‏الخروج 30: 11-16 والملوك الثاني 12: 4، 5 ونحميا 10: 32‏
وفي التفسير المسيحي- بتصرّف: [كان الدرهمان مبلغًا صغيرًا من المال يوازي نصف شاقل. ‏وكان واجبًا على كل يهودي أن يدفعه لنفقات الهيكل والعبادة المتعلقة به. فالمنتظر من كل ‏يهودي أمين لديانته دفع هذا الرسم سنويًّا بمحض اختياره. فسألوا بطرس {أما يوفي مُعَلمكم ‏الدرهمين؟} أي: هل مُعَلِّمُكم يهودي أمين لديانته، فجاوبهم: {بلى} أي: يقوم بكل ما يجب القيام ‏به. لذلك؛ عند دخول المسيح البيت ابتدر بطرس بسؤاله عن الأساس الذي بنى عليه جوابه، ‏فسأله عن عادة ملوك الأرض في أخذ الجباية؛ أيأخذونها مِن بنيهم (أي أهل بيوتهم أو العائلة ‏الملكية) أم من الأجانب (أي من الرعية)؟ فأصاب بطرس بجوابه {مِن الأجانب} لأنّ مِن ‏المعلوم أنّ الملوك لا يضعون الضرائب على بَنِيهِم {قال له يسوع فإذًا البنون أحرار} أي ليس ‏عليهم أن يدفعوا الجباية {ولكن لئلا نُعثرهم إذهب إلى البحر… إلخ} فنرى هنا قصد الوحي من ‏إدراج هذه الحادثة هو أنَّ الرب جَمَعَ بطرس وغيره مِن خاصَّته مع نفسه كأبناء الله صاحب ‏الهيكل.‏

وتاليًا؛ كان اليهود مُصِيبين بدفع هذه الجباية لله كرعية. أمّا المسيح وأتباعه كبنين لم يكونوا ‏من الموضوعين تحت قوانين الهيكل (أنظر-ي إشعياء8: 16-18) حيث نرى المسيح ‏مرفوضًا من إسرائيل وتلاميذه مُفرَزين له وهو {مصطبِر لِلرَّبِّ السَّاتِر وَجْهَهُ عَنْ بَيْتِ ‏يَعقُوبَ} أمّا تلاميذه فهُمْ بالحقيقة أولاد مُعطَون له {مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْجُنُودِ السَّاكِنِ فِي جَبَلِ ‏صِهْيَوْنَ} فاٌنظُر-ي أيضًا قوله {إنّي أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم}+ يوحنا 20: 17 ‏نَعَمْ؛ هذه الحقائق الجميلة لم تُعلَن إعلانًا تامًّا إلّا بعد قيامته، لكنه قد أشار إليها هنا وأمر بدفع ‏الدرهمين عنه وعن بطرس لقطع أسباب العثرة فقط. وكما أن المسيح أظهر معرفته الإلهية، إذ ‏سأل بطرس سؤالًا عما جرى خارج البيت، هكذا أظهر قدرته الإلهية وسيادته على خليقة الله، ‏إذ جعل سمكة تأتي بالمبلغ المطلوب. كان ابنَ الله، لكنه ترك حقوقه في العالم في الوقت ‏الحاضر وعَلَّمَ تلاميذه أنْ يتصرَّفوا مثله، كمُقامِين مقامَهُ وهو غائب؛ وديعِين ومتواضعِي ‏القلب، كغرباء ونزلاء، لا رؤساء ولا سلاطين]- بقلم بنيامين بنكرتن.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا