عند مفترق الطريق

سقوط ورقة زاهية: تتساقط أوراق الشجر متهادية على الطريق المُشجّر المؤدي إلى البلدة العريقة. وهنالك ورقة زاهية الألوان في سقوطها تضربها بلطف هبّة ريح ليِّنة، وسرعان ما تلبث برونق الخريف أن...
17 يونيو 2015 - 17:30 بتوقيت القدس
سحر عوكل وعماد خوري

عند مفترق الطرق

سقوط ورقة زاهية: تتساقط أوراق الشجر متهادية على الطريق المُشجّر المؤدي إلى البلدة العريقة. وهنالك ورقة زاهية الألوان في سقوطها تضربها بلطف هبّة ريح ليِّنة، وسرعان ما تلبث برونق الخريف أن تُذَهِّبَ الرّصيف، لتضع بصمتها الجماليّة عليه؛ فهي كصفيحة التِّبر الأصفر وقد وشّاها ظلٍّ بنفسجي باهت. فكيف هكذا يتحول الذبول إلى نضارة، ويأتي الجمال من الرّماد، وتُبعث الحياة من الموت؟!

مكابدة معاناة الفراق: مع أنه عندنا الرجاء المجيد والمشرق وقد صار الموت ربحا لنا، لكن أحباء الرّاقد في الرب يختبرون أوقاتا صعبة ومؤلمة للغاية فيها الحزن العميق والبكاء الكثير. وعلى الرغم من الحقائق المجيدة التي تذيعها كلمة الله في العهد الجديد من كشوفات عن الموت، يبقى ألم فراق الموت صعباً لأعزاء المنتقل إلى سماء المجد.

لقد فقدت منذ شهور قليلة شريك حياتي الغالي وهو في أوج رجولته. إنه سقط كورقة نضرة زاهية تُزيِّن رصيف الموت المؤدي إلى أفراح الفردوس. وها أنا من اختباري الشخصي أشارككم مشاعري وشيئا من معاناتي المتولدة من مأساتي تلك.

أمام ضريح الحبيب:ما من أحد،يا شريك عمري، سوى ربي الحبيب يعرف ما أشعر به في أعماق كياني من أحزان وصراعات بسبب رحيلك المفاجئ عنّا! كم أشتاق إليك يا زوجي وحبيبي، وأنا أبكيك كل يوم بحرقة فدموعي تجري غزيرة لا تنقطع ولا تجف أبداً. سألت ربي الحبيب : لماذا يا رب بكّرت بدعوتك لزوجي ليكون معك في الفردوس؟! وجاءت إجابته لي: إن دوره قد انتهى هنا في الأرض. ثم أردفت قائلة له: ولكن أنا وأبناؤنا وأحفادنا الصغار في أمس حاجة إليه. وكان جواب الله: أنا معكم.

وهاأنذا أقف أمام مثوى جسدك لأضع الورود الجميلة والأزهار الشّذيّة على قبرك، متذكرة إيّاك وقد تركت بباب بيتنا الدّافئ أجمل الذكريات: فها أنت بحُلو مبسمكَ تستقبل أولادنا وأحفادنا عند العتبة وترحب بهم برنين صوتك الدّافئ أروع ترحيب، وكذلك بعينيك الضاحكتين، وبذراعيك المفتوحتين تأخذهم ولقلبك الكبير تضمّهم.

نتذكر نزهاتنا معك وجلساتنا الحلوة، وكذلك أيام زفاف ابننا ثم كريمتنا وليالي الأعياد بحضورك البهيج. لقد افتقدك أولادنا جدّاً، فكيف لا يشتاقون إلى الأب الحنون والمثالي الذي كان يحرم نفسه من راحتها لأجل إسعادهم وقد اعتدنا معاً أن نفرح لفرهم ونبكي لبكائهم. وها هم الأحفاد يسألون عنك في غيابك، يبحثون هنا وهناك ويشتاقون إلى رؤية بسمتك العذبة. لا أدري لصغر سنهم كم فهموا من قولنا لهم بأنك ذهبت إلى السّماءعند يسوع، ولكنهم يشتاقون إلى الجد الطيب كثيراً. وكم كان الموقف مؤثراً للغاية عندما دخلت حفيدتك الصغيرة إلى غرفتك وراحت تطلبك، ولما لم تجدك بكت على فراشك وبكينا نحن جميعاً معها. اشتقت ان أرى معانقتك لهم وقبلاتك الغامرة إيّاهم بالحب الرّائع! " لأن المحبّة قويّة كالموت".

ما أصعب الفراق! وما أوحش الوحدة! لقد أصبحت أيّامي كئيبة، ولياليّ مليئة بالحزن والأسى كما لوأنهما جمرات متّقدة في نفسي، بل لهب تسري كالدماء في عروقي. كما أن دموعي على فراقك كيف لا تبلل وسادتنا بينما لا أحد من حولي يعرف مدى ألمي وعظمة أشواقي إليك، يا أغلى النّاس. هل تصدق أنني بعد رحيلك لم أعد أعرف للضحك سبيلاً؟ لا بل حتى الإبتسام هجر ثغري وملامحي ليذهب في رحلة بعيدة بعيدة! كم أحس بالفراغ والعجز وحياتي باتت باردة وخالية من البهجة ، وكثيراً ما أتساءل: كيف سأتابع السير في هذه الحياة الصّعبة من دون وجودك بجانبي لنتعاون معاً في تدبير أمور منزلنا وتنشئة أولادنا؟ أنت وحدك من كان يفهمني قبل أن أفوه بكلمة، كذلك كنت تتفاعل معي في ضيقي وفي فرحي، تشعر بي وتتعاطف معي. وكم من المرّات حدث وأنا منهمكة في شئون البيت والمطبخ، أن يأتيني السؤال عن أمر ما من أحد أولادنا أو إحدى بناتنا لأجيب بعفوية وبسهوة عن الواقع المر: " بعرفش، إسأل أبوك! إسألي أبوك!"ولكن سرعان ما أستفيق من هذه السهوة الحلم على وعي موجع بأنك حقيقةً، يا شريك حياتي الطيب، قد مضيت إلى العالم الآخر ولم تعد بيننا. مع هذا كله، فإن الرب موجود وحاضر معنا للعون والتعزية ولمنح القوة والإرشاد. "لأَنَّ ٱللهَ هَذَا هُوَ إِلَهُنَا إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلْأَبَدِ. هُوَ يَهْدِينَا حَتَّى إِلَى ٱلْمَوْت " (مزمور 48:14).

نعم، أنت لست هنا في هذا القبر البارد، هنا يرقد فقط جسدك الترابي الذي سيقام بمجد في يوم قريب. أنا أعلم يقينا انك أنت الآن بروحك ونفسك في حالة وعي مبارك في الفردوس مع الرب يسوع متمتعا بفرح عظيم وبسعادة أبديّة، لأنك آمنت به وقد خلصك بدمه الكريم من جميع خطاياك كما خلصني أنا أيضاً. لذلك نحن المؤمنين بابن الله الحي "نَثِقُ وَنُسَرُّ بِٱلْأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ ٱلْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ ٱلرَّبِّ." 2(كور5:8). ذلك"لأَنَّ لِنا الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ" (فيلبي1:21).

ومهما كانت فاجعتي كبيرة ومحنتي قاسية جدّاً، غير أن إيماني بالله القادر على كل شيء هو أكبر وأعظم بما لا يُقاس، فهو عزائي وسندي وقوتي دائماً وأبداً "عوناً في الضيقات وُجد شديداً".

يقين اللقاء الأبدي: ولئن سبقتنا إلى الأمجاد السموية وقد افترقنا إلى حين، فإن هذا الفراق ليس ختام المطاف إذ سسنلتقي قريباً في لقاء لا يكون بعده فراق أبداً، لأن يسوعنا العظيم قد وعد- وهو الأمين الصادق- بأن يأتي ويأخذنا إليه وهكذا نكون بعضنا مع بعض بمعية الرب طوال الأبدية السّعيدة. ما أعظم وعده ذاك لنا: "أَنَا أَمْضِي لِأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا" (يوحنا14:3) .كذلك يكتب بولس قائلاً:"فإنَّنَا نَقُولُ لَكُمْ هَذَا بِكَلِمَةِ ٱلرَّبِّ: إِنَّنَا نَحْنُ ٱلْأَحْيَاءَ ٱلْبَاقِينَ إِلَى مَجِيءِ ٱلرَّبِّ، لَا نَسْبِقُ ٱلرَّاقِدِينَ. لِأَنَّ ٱلرَّبَّ نَفْسَهُ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلَائِكَةٍ وَبُوقِ ٱللهِ، سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلْأَمْوَاتُ فِي ٱلْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَوَّلًا. ثُمَّ نَحْنُ ٱلْأَحْيَاءَ ٱلْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي ٱلسُّحُبِ لِمُلَاقَاةِ ٱلرَّبِّ فِي ٱلْهَوَاءِ، وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ ٱلرَّبِّ لِذَلِكَ عَزُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِهَذَا ٱلْكَلَامِ.( 1تسا15:4-18).

وهكذا، في موطننا السّموي، سنختبر السرور الأبدي غير المخلوط بأية مكدرات بدل الفراق و الحزن والدموع. هنا في الأرض، نحن نسترق بعض الرّشفات من الأفراح، على أنها أيضاً غير صافية بل يعكرها الكثير من العناء ومن خيبات الأمل؛ أما في السماء فلسوف ندخل فرح السيد الرب عينه في كل ملئه وزخمه وغماره.

لذلك، عند مفترق الطريق ذاك، لن أقول لك وداعاً يا حبيبي، بل إلى اللّقاء- إلى اللقاء في عالم الحقيقة والهناء.

أحنُّ إلى مجدِ ربي الحبيبْ     إلى مَن فداني بموتِ الصّليبْ
لأستوْطنَ النّورَ قدّامهُ     بملء السرورِ بأشهى نصيبْ
فمقصدُ نفسي ديارُ العُلى     ومُنيتُها شخصُ ذاك العجيب 
أراهُ كما هو في مجدهِ     ومثله أمسي بجسمٍ قشيبْ
إلى الآبِ آتي، ففي بيتهِ     يُزيل عنائي وهمِّي المُذيبْ
لديهِ السّعادة مشرقةٌ     ومن دونهِ القلبُ حقّاً كئيبْ
 تغيبُ الشّموس بأفلاكها     وشمسُ سعادتنا لن تغيبْ!

"وَإِنَّمَا أُظْهِرَتِ(أي النعمة) الآنَ بِظُهُورِ مُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ"(2تيمو1:10).

 

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا