لقول الصدق بت أستغرب هذا التوجه العربي المسيحي الذي يختار فيه البعض أن يرتقي ويرتفع فوق الكل، لابسًا "قناع" المسيحية والتقوى، جازمًا ومُعلنًا بأنه "مختلف" عن الكل! هو ليس جزء من الكل، ليس جزء من آلامهم ومعاناتهم ولا من قضيتهم لأنها دنيوية ومؤقتة، أما هو فمكانه في السماء، فلم يبالي أو يهتم؟!
لقد أعمى "التدين" أعيننا عن واقع وحقيقة الإنسانية التي تأسست مسيحيتنا عليها! لقد جاء المسيح من أعلى سماه، نزل من ارتفاعه وفوقيته الملوكية ليصبح واحدًا منا، جزء من وجعنا وألمنا وتعبنا واحتياجنا...تحنن علينا وأشفق وشفا وبارك... جلس مع الخطاة وحادثهم وحاورهم وأكل معهم وأحبهم "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ." (فيلبي 2: 6-7) رب المجد أخلى نفسه وتواضع وأحبنا جميعنا حتى الموت! أحبّ حتى الموت! فمن أنت يا صاحب لتدعي الفوقية وتتعالى؟! ها نحن بالمقابل نختار أن نعلو ونسمو عن الكل، منعزلين عن حياة بأكملها بادعاء أن موطننا بالأخير سماوي!
أنا طبعًا لا أعترض على هذه الحقيقة وهذا الرجاء الذي أعطانا إياها يسوع المسيح بقيامته له كل المجد. أن أسكن معه بالأمجاد هو حلمي ورجائي واشتهائي، ولكن كما قال الرسول بولس: "فَإِنِّي مَحْصُورٌ مِنْ الاثْنَيْنِ: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا. وَلكِنْ أَنْ أَبْقَى فِي الْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ." (فيلبي 1: 23-24) فإن واجبي الأساسي كمسيحية هو أن أعكس صورة طيبة عن المسيح الذي يعيش فيّ وأعبق من حولي بناردين أطايبه... من خلال حياتي وأخلاقي ومبادئي وعقيدتي بين الناس وليس فوقهم! أن أعكس جمال المسيح بمحبتي الخالصة للآخر، وقبولي الكامل للآخر دون شروط أو قيود أو حواجز. من خلال احترامي للآخر ولمواقفه ومبادئه حتى لو لا أقبلها.. بأن أنبذ الظلم والقهر، وأمدّ يد العون لمنع الشر قدر استطاعتي.. أن أكون بركة حيّة وحقيقية في حياة غيري بغض النظر عن دينه ولونه وشكله! عكسي لصورة المسيح لا يقف عائقًا أمام انصهاري وانتمائي للإنسانية بل على العكس، هي السبيل والطريق للآخر. هويتي ولغتي الحالية والأرضية التي تُعرّف من أكون، هي التي تبني جسرا لأتواصل مع الآخر... هنالك واجبات ومسؤوليات تتحتّم علي تجاه أهلي وناسي ووطني.. هذه ليست سياسة بل هي إنسانية بحتة قبل أي شيء!
أنا مسيحية وبفخر، وانتمائي الأرضي هو عربية فلسطينية... ومن أبسط حقوقي وحقوق أبناء شعبي (كأي شعب آخر) أن أعيش بسلام وأمارس حقوقي الإنسانية اليومية، كارهة للظلم والقهر واغتصاب الحياة! إختبائي "فوق الغيوم" وانعزالي عن هذا العالم يشبه تصرف النعامة التي تدفن رأسها في الأرض متجاهلة تمامًا وجود واقع وحياة وإنسانية خلقها الرب... ومن ثم أمدّ اصبع الإتهام لمن يبادر ويحب ويغار من الظلم والقهر متهمًا إياه "بالدنيوي"!!! أحقًا هذا؟!
أرفض إدعاءات البعض بأن الأحداث الدنيوية القائمة من حولنا هي بحسب مخطط الله وتدخلنا (الإنساني) يعني التدخل في مخطط الله!!! هل يقبل الله بالظلم والقتل والاغتصاب والقهر والعنصرية... أنا أؤمن بإله حنّان وعادل ورحيم وشفوق وطيب، وهو لا يقبل لأولاده ولا لخليقته بالمعاناة.
إن الله لا يميز شعب عن آخر، فليس عند الله محاباه!!! (رومية 2: 11)
لقد خلقنا الله مع عقل لنفكر، ونسبة ذكاء لنتصرف ونتدبر أمورنا، والأهم من ذلك أنه أوجد فينا القلب والمشاعر لنشعر ونحس وبالتالي نبدي ردود فعل لمشاعرنا وأفكارنا.. وبذلك نصنع الفرق والتغيير.
لا أستطيع أن أربح الآخر بفوقية وتعالٍ وانعزال، بل لأكون ملح في هذه الأرض عليّ أن أذوب وأتغلغل مع الماء في ترابها.. أن نشعر مع ناسها وأهلها، نقاوم الشر والشرير، أن نحتضن المتألم والمظلوم وأن نسند المُتعب والعاجز وأن ننصر الفقير والمسكين...نحن سفراء لنبث حياة ونعكس صورة حيّة للإنسانية.. ولنكسب الآخر علينا أولاً أن نقبله ونحبه ونستوعبه...! هذه هي تعاليم المسيح ووصاياه... لننشر إنجيل الحق علينا أن نتمثل بالحق والعدل والمحبة ليقبلني الآخر وبالتالي يقبل رسالتي ويفهما ويعرفها ويختبرها.