هل حقا مسيحي؟ – قراءة في الخطاب المسيحي العربي الوطني – الجزء الثاني

كثير من الخطابات المسيحية العربية التي تتناول قضايا سياسية ووطنية، تُرفع باسم المسيح، لكنها تفتقر إلى جوهر تعاليمه التي تدعو للمحبة والغفران حتى للأعداء. يبقى التحدي في صدق التمثيل، لا في كثرة الاقتباس.
25 مايو - 09:55 بتوقيت القدس
هل حقا مسيحي؟ – قراءة في الخطاب المسيحي العربي الوطني – الجزء الثاني

كما قدمت في المقال السابق عن مشكلة ازدواجية الخطاب المسيحي العربي، في هذا المقال أواصل النقاش في قراءة هذا الخطاب، الذي يُطرح بصفته وبمرجعيته المسيحية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك وثيقة "كايروس فلسطين" التي تُعرّف نفسها بأنها حركة مسيحية فلسطينية، أو مجموعة "المسيح أمام الحاجز"، وكلها مؤسسات أو أشخاص يتكلمون بصفتهم المسيحية ككهنة أو قساوسة في طوائف مختلفة. والسؤال هنا: ما هي القيمة المُضافة للهُوية المسيحية في هذا الخطاب؟

إنّ الإيمان المسيحي ليس بكلام او بالقاب انما هو ايمان يُنتج اعمالا خاصة لا يمكن انتاجها الا من خلال الايمان بيسوع المسيح كما قال يعقوب: "أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي" (يعقوب 2: 18). وقد رأى Matthew Henry[1] من خلال هذه الآية بانه لا توجد طريقة لإظهار أننا نؤمن حقًا بالمسيح، إلا من خلال الاجتهاد في الأعمال الصالحة، والتي هي بدوافع الإنجيل، بل ولأغراض كرازية، أي انها تتمركز حول المسيح نفسه وليس من اجل العمل الاجتماعي ويتفق معه أيضا Jamieson-Fausset-Brown[2] اذ يقول لكي تُظهر الإيمان للناس، لا بد من وجود أعمال فنحن نتبرر أمام الله قضائيًا، وباستحقاق المسيح، وبواسطة الإيمان، ولكن إثبات الإيمان يكون من خلال الأعمال.

عندما أقرأ الخطاب المسيحي العربي المتعلق بالقضية الفلسطينية والمقاومة، أجد، بخلاف ما تناولته سابقًا من ازدواجية، خطابًا يدعو للعدل والمساواة ووقف سفك الدماء، ويشجع على السلام والتعايش، وهو في ذلك لا يختلف عن أي خطاب لجمعية تتخذ طرفًا ضد طرف وتدعم القضية الفلسطينية من منطلقات سياسية. ومع التقدير للنيات الطيبة، بل إن هذا الخطاب لا يتميز عن خطاب المؤسسات العلمانية أو حتى ملحدة تطالب بمطالب مماثلة. ولا يبدو لي أن فيه تحديًا للطبيعة البشرية، أو بعدًا يتجاوز المناداة العامة بالسلام، كما هو متوقع من الخطاب المسيحي المستنير بتعاليم الإنجيل. فاين هذه الاعمال التي تكلم عنها الرسول يعقوب؟ واي فضل للمسيح في خطابهم؟

واستمر في طرح تساؤلٍ بروح المحبة والمسؤولية: هل يحمل هذا الخطاب ملامح الإنجيل فعليًا؟ الخطاب المسيحي لا يُعرف فقط بذكر الآيات، بل بمدى تجسيده لروح المسيح وتعاليمه. بولس الرسول اقتبس من شعراء وثنيين (أعمال 17: 28، تيطس 1: 12)، فهل صار خطابه وثنيًا؟ وأتساءل عن تعريف خطابات مهاتما غاندي، هل نستطيع اعتبارها مسيحية بمجرد احتوائها لاقتباسات من العهد الجديد؟

تميز الرب يسوع بتعاليمه اذ قال: "سمعتم انه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك واما انا فأقول لكم: أحبوا اعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا الى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم" (متى 5: 43-44). إن هذه الدعوة تعبّر عن قمة المحبة المسيحية، إذ تُظهر نعمة الله الساكنة في قلوبنا، وتميز المؤمن عن غيره في رد الفعل تجاه الظلم. او في المثل المعروف باسم السامري الصالح الذي انهاه الرب بالقول "فقال له يسوع: اذهب انت ايضا واصنع هكذا" (لوقا 10: 37) فهل في الخطاب المسيحي العربي من يقول اذهب اصنع مع عدوك (السامري) هكذا؟ بهذا يتميز خطاب المسيح عن سائر حركات العدالة الاجتماعية. أتساءل بمحبة: لماذا لا يدعو الخطاب المسيحي العربي إلى الصلاة من أجل الأعداء؟ لماذا لا يدعو إلى مباركة المسيئون؟

بولس الرسول كتب: "فان جاع عدوك فأطعمه. وان عطش فاسقه. لأنك ان فعلت هذا تجمع جمر نار على راسه" (رومية 12: 20). وقد عرف المفسر Calvin[3] الانتقام بانه لا الضرر لعدونا فقط، بل أيضا عندما نمتنع عن فعل الخير اتجاه من أساء إلينا، فإن هذا يُعد نوعًا من الانتقام غير المباشر ويشرح أن عبارة "طعام وشراب" تشمل كل أعمال الإحسان. فمهما كانت قدرتك، وفي أي مجال يحتاج فيه عدوك إلى مالك أو نصيحتك أو دعمك، عليك أن تساعده. ويضيف أن كلمة "عدو" هنا لا تشير لمن نكرهه نحن، بل إلى من يكنّ لنا العداء. وإن كان علينا أن نساعدهم في احتياجاتهم الجسدية، فكم بالأولى ألا نطلب عليهم الانتقام، بل نرغب بخلاصهم.

ان هذه الآية تظهر أعظم تعبير عن الغلبة الروحية، حيث يمكن أن يقود العدو إلى التوبة من خلال اللطف والنعمة. يا لها من مقاومة مسيحية عظيمة، أن تقدم طعامًا لمن تعتبره ظالمًا، في حين اخرين يدعون للقتل. هنا يكون الخطاب المسيحي نورًا في الظلمة.

وأنا أتأمل هذا الواقع، لا أتوجه بإدانة أو اتهام، بل أدعو بمحبة وتواضع إلى مراجعة صادقة، لماذا لا نجد في المؤتمرات والبيانات المسيحية "الوطنية" صلوات حارة من أجل من يُنظر إليهم كخصوم؟ لماذا لا نُظهر استعدادًا لنبارك من اعتبروا مسيئين؟ إن كان خطابنا لا يتحدى الطبيعة البشرية ويستند إلى نعمة المسيح، فهل هو فعلًا خطاب مسيحي إنجيلي؟

نعم، قد تضيف الهوية المسيحية ثقلًا ومصداقية، وتمنح تغطية إعلامية جذابة، لكنها في جوهرها مسؤولية روحية. فإن خلا الخطاب من روح المسيح وتعاليمه، فإنه يفقد جوهره. لعلنا نسأل أنفسنا جميعًا، بمحبة وتجرد، هل تضيف المسيحية في الخطاب الوطني شيئًا لا يستطيع غير المسيحي أن يقوله؟ وإن لم تكن هناك هذه الإضافة، فربما نحتاج أن نراجع ليس فقط ما نقوله، بل أيضًا منبع ما نقوله.

أدعو إخوتي وأخواتي ممن يحملون هذا الخطاب أن يتأملوا، هل نحن نقدم صوت المسيح، أم أننا ننقل صوتًا آخر مستخدمين اسمه؟ وأدعو القراء المؤمنين أن يميزوا بين خطاب يقتبس من الإنجيل، وخطاب يفيض بروحه. بهذا فقط يمكننا أن نكون أمناء لشهادتنا، وللرجاء الذي فينا.


[1] https://biblehub.com/commentaries/mhc/james/2.htm
[2] https://biblehub.com/commentaries/jfb/james/2.htm
[3] موقع: https://biblehub.com/commentaries/calvin/romans/12.htm 

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا