لقد بدأت هذه الصرخة تتزايد على وسائل التواصل الاجتماعي. بعضها صرخات ساخرة بالله الذي يرونه كأنه يقف مكتوف الأيدي أمام إغلاق الكنائس التي من المفترض أنها تعبده وتعيد أعياده! والبعض الآخر يشعر بخيبة الأمل بأن برنامج فرحة العيد التقليدي الذي تعود عليه عبر الأجيال سيتوقف! والبعض الآخر يظن أنه إذا بقيت الكنائس مغلقة والناس لازمت بيوتها، كأنه قد ألغي العيد! والبعض يشعر أنه لن يقدر أن يعيد العيد، دون الذهاب للكنيسة والقيام بالشعائر المعتاد عليها! وأشعر بنار في قلبي للرد على جميع هؤلاء الناس بما رده الله على شعبه في القديم الذي واجه نفس المشاكل. لذلك نحتاج أن نرجع للوراء ونتعلم ما هو العيد من منظور الله؟ لا سيما أن مفهوم العيد قد تشوه عند الكثيرين عبر العصور.
العيد هو مسيرة روحية هدفها تغيير الإنسان:
إن العيد هو تذكر عمل عمله الله في وقت معين في التاريخ، لتغيير حياتي كإنسان يعيش اليوم. وهذا العمل لا يمكن أن يموت، يتوقف، أو ينتهي. فهو مرتبط بعمل الله الأزلي، وغير مرتبط بحالة الإنسان الوقتية المتقلبة. فالمواسم والأعياد التي دعا الله شعبه ليعيدها، كانت دائمًا مرتبطة بمسيرة يسير بها الإنسان لترويض نفسه ولتتغير حياته، تجاوبًا مع العمل الذي عمله الله له، المتمثل بالعيد. والأعياد وجدت لتغير حياتنا، فكانت مرتبطة بعملية حج إلى المكان المقدس (وكلمة "حج" هي عبرية الأصل، "חג"). أي أنه كل شخص يهودي وقت العيد يحج للهيكل، كما يروي الوحي مثلا عن العائلة المقدسة:
"42 وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ" لوقا 2
"10 وَلَمَّا كَانَ إِخْوَتُهُ قَدْ صَعِدُوا، حِينَئِذٍ صَعِدَ هُوَ أَيْضًا إِلَى الْعِيدِ.." يوحنا 7
فكان العيد مرتبط بإخلاء الإنسان لنفسه وحياته من مشاريعه، السفر يومين ذهابًا وإيابًا للقدس بثياب بسيطة، بظروف صعبة، بيئة مغبرة أو موحلة، على دابة أو سيرًا على الأقدام، بدون هدايا وعزائم، طبخ وموائد، لباس فاخر ومكياج، زينة، حلوى، ألعاب، هدايا وأفلام، والسفر والتنزه...إلخ. بل مقرون بتفريع تام للنفس وبرامجها، والتكريس التام لبرنامج الرب وما يريد أن يفعله في حياتي بمسيرة العيد؛ نعم هذا هو مفهوم العيد. وإذا نظرنا لهذا المفهوم الأصلي للعيد، سنعرف أن تعييدنا اليوم في البيت في ظل المنع، سيكون أقرب لمفهوم العيد كما علمنا اياه الوحي، مما نحن متعودون عليه كل السنين الماضية!
طبعًا المسيح أبطل حتمية زيارة المكان المقدس المادي لكي تصح عبادتي، حيث علم أنه "21 ... تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ...23 وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ.." يوحنا 4
فالمسيح أبطل أي ارتباط في المكان المقدس لكي تصح عبادتنا وتعييدنا. طبعًا هذا لا ينفي أهمية الأماكن المقدسة، مكانتها العظيمة، زيارتها، تذكر أحداثها، والصلاة بها. لكن عبادتي في ظل العهد الجديد غير مرتبطة بالمكان المقدس وصلاتي به. بل مرتبطة بوجود الروح القدس في حياتي وتبعيتي للحق، أي للمسيح. فعبادتي في المكان المقدس لا تجعلها أصح وذات قيمة أعلى من عبادتي في أي مكان آخر. بل أكثر من ذلك، لقد أعلن المسيح حقيقة صاعقة للذين سمعوه بالموعظة على الجبل؛ وهي أنه أعظم عبادة وأقدسها في عيون الله، هي العبادة في مُخدعي ومكاني الخاص (راجع متى 6: 5-6)! والتي تسلط الضوء على تكريسي للرب في أكثر الحجرات خصوصية في حياتي ماديًا ومعنويًا! وهذا يضرب كل مفاهيم ديانات العالم عرض الحائط! حيث جميعها مرتبطة بالعبادة في مكان مقدس معين تقدسه. لكن الله يرى في عبادة القلب الصادق بالروح والحق في غرفتي الخاصة، في السر، أعظم عبادة على وجه الأرض وأهمها بالنسبة له.
لذلك بخصوص الأعياد، انتهجت الكنيسة عبر العصور للحفاظ على معنى أساس العيد بمفهوم المسيرة لتغييري وتقريبي لله، بالإضافة لزيارتي للمكان المقدس إذا أمكن. أي ركزت على مفهوم العيد كمسيرة روحية لتغيير حياتي، لذلك ربطت كل عيد بصيام لترويض النفس وتغييرها وتقريبها لله. فعيدا الميلاد والفصح مثلا، مرتبطان بصيام تقارب مدته المئة يوم. خلالها، مشيئة الله أن أسير هذه المسيرة من خلال الصيام، طريق يصف وحي إشعياء 58 محطاته بـ: "(1) حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. (2) فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، (3) وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، (4) وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ أَلَيْسَ (5) أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، (6) وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ (7) إذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، (8) وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ...إن نزعت من وسطك.. (9) الإِيمَاءَ بِالأصْبُعِ (10) وَكَلاَمَ الإِثْمِ " أشعياء 58: 6-9
وعندما يتمم المؤمن هذه المسيرة الروحية الثمينة عن طريق مسيرة العيد الحقيقية، يعده الرب بنعمة ملء حياته بالبركة والقوة، بقوله: "10 .. يُشْرِقُ فِي الظُّلْمَةِ نُورُكَ، وَيَكُونُ ظَلاَمُكَ الدَّامِسُ مِثْلَ الظُّهْرِ 11 وَيَقُودُكَ الرَّبُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَيُشْبعُ فِي الْجَدُوبِ نَفْسَكَ، وَيُنَشِّطُ عِظَامَكَ فَتَصِيرُ كَجَنَّةٍ رَيَّا وَكَنَبْعِ مِيَاهٍ لاَ تَنْقَطِعُ مِيَاهُهُ" أشعياء 58
نعم هذا هو مفهوم العيد أخي أختي، وما نمر به اليوم يشكل أفضل وأخصب تربة لتحقيقه فعلا؛ فاستغلها أخي الحبيب، وافرح بها لتعيِّد بشكل صحيح لو لمرة في حياتك. لذلك رأى الله أننا نحتاج لأيام حجر الوباء هذه، ليفرغ نفوسنا تمامًا من مشاريعنا وخططنا وعاداتنا في الأعياد؛ لكي يدخل على حياتنا نعمة الاقتراب له فعلا، وأجتيازنا مسيرة الحج الروحي هذه لتغيير حياتنا. فلا تهمل هذه الفرصة الثمينة أرجوك؟
إذًا بإمكانك أخي الحبيب أن تجعل هذا العيد أفضل عيد عيدته في حياتك، تقدر أن تجعله مغير لمصيرك واهدافك. إذا قبلت تفريغ الرب لكل برامجك بفرح وشوق، لترى ما هو أعظم من الحفلات والطعام والعزائم...إلخ. بركة حضور نور المسيح الإلهي العظيم ليسطع في حياتك بقوة من جديد. لذلك قال: "8 إِذًا لِنُعَيِّدْ، لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ، وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ، بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ" 1 كورنثوس 5
إقرا كلمة الله، صلي، سر في العشر نقاط المذكورة في المسيرة الروحية أعلاه، أجري تقييم لحياتك، وسيكون هذا العيد أكثر عيد مميز اختبرته في حياتك، ولن تنساه أبدًا.
سنتابع في المقال القادم نقطتين إضافيتين تساعدانا لكي نفهم العيد من زوايا أخرى هامة.