أوروبا تحصّن أسواق الميلاد: تهديد التطرّف الجهادي يثقل فرح «زمن المجيء»
مع اقتراب عيد الميلاد هذا العام، تعيش أسواق الكريسماس في ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية بين فرح الأضواء ورائحة النبيذ الساخن من جهة، وهاجس التهديدات الإرهابية ذات الخلفية الجهادية من جهة أخرى. ففي مدينة ماغديبورغ الألمانية، أعيد افتتاح السوق الشهير في 20 تشرين الثاني/نوفمبر بعد تردّد طويل، وعلى وقع ذكرى الهجوم المروّع العام الماضي حين اندفعت سيارة وسط الجموع، فقتلت ستة أشخاص وأصابت أكثر من 300 بجروح، في حادثة هزّت الضمير الألماني والمسيحي في الأسابيع التي سبقت عيد الميلاد 2024.
الهجوم في ماغديبورغ أعاد إلى الأذهان عملية الدهس التي نفّذها متطرّف إسلامي بشاحنة مخطوفة في سوق عيد الميلاد في برلين عام 2016، حين قُتل 12 شخصًا وجُرح العشرات، ودفع السلطات إلى رفع مستوى الحماية حول «أسواق الميلاد» في البلاد كل شتاء. هذا العام، تشير بيانات رسمية إلى أن كلفة الإجراءات الأمنية لهذه الفعاليات العامة، وعلى رأسها الأسواق، ارتفعت بمتوسط 44٪ خلال السنوات الثلاث الأخيرة، إذ أضيفت حواجز إسمنتية ضخمة، ونقاط تفتيش على المداخل، وتعداد فوري للزوار عبر أنظمة إلكترونية وكاميرات مراقبة، إلى جانب نشر عناصر أمن خاص وشرطة في محيط الأسواق.
النتيجة أن أسواقًا كبيرة مثل «غندارمن ماركت» في برلين باتت تفرض رسم دخول رمزيًّا (حوالي 2 يورو) للمساعدة في تغطية تكاليف الأمن، فيما تجد مدن صغيرة ومنظّمون مستقلّون أنفسهم عاجزين عن تحمّل الأعباء، ما أدّى إلى إلغاء بعض الأسواق المحلية في ولايات ألمانية مختلفة. وهذا الواقع دفع جمعيات البلديات إلى المطالبة بدعم أكبر من حكومات الولايات، معتبرة أن ما يجري هو في جوهره «مكافحة إرهاب» يتجاوز طاقة البلديات الصغيرة.
لكن خلف الأرقام والاجراءات، يختبئ قلق شعبي حقيقي. فاستطلاع حديث للرأي أشار إلى أن 62٪ من الألمان يخشون وقوع هجوم في أحد أسواق عيد الميلاد هذا العام.
ويؤكد خبراء أمنيون أن المخاوف ليست من فراغ؛ فالتقارير الأوروبية الرسمية ترصد ارتفاعًا في عدد الهجمات ذات الدافع الجهادي. تقرير «حالة واتجاهات الإرهاب في الاتحاد الأوروبي 2025» الصادر عن «يوروبول» سجّل في عام 2024 وقوع 24 هجومًا منسوبًا إلى الإرهاب الجهادي في دول الاتحاد، معظمها نفّذه «ذئاب منفردة»، مقابل 14 هجومًا فقط في العام السابق.
في ألمانيا خصوصًا، تشير دراسة حديثة صادرة عن «مركز مكافحة الإرهاب» في وست بوينت إلى أنّ التهديد الإسلامي المتطرّف تطوّر خلال السنوات الأخيرة ليركّز على «أهداف سهلة» مثل أسواق الميلاد، ومواكب الأعياد، والتظاهرات الشعبية، ومحيط الكنائس والمعابد اليهودية. وقد أحبطت السلطات منذ 2020 عشرات المخططات التي استهدفت أسواقًا كبرى في هانوفر وليفركوزن وغيرها، وبعضها كان يخطّط لتفجير سيارات مفخّخة أو تنفيذ عمليات طعن جماعي باسم «تنظيم الدولة» وغيره من الجماعات المتطرّفة.
أمام هذا الواقع، يجد المسيحيون في أوروبا أنفسهم على خط تماس مباشر بين الدفاع عن تقليد روحي عريق وبين هواجس أمنية لا يمكن تجاهلها. تقرير كاثوليكي حديث عن سوق ماغديبورغ يؤكّد أن السلطات لم توافق على افتتاح السوق إلا بعد تعديل شامل لـ«خطة الأمن»، مع نصب حواجز جديدة وتكثيف حضور الشرطة، في حين حذّر كاهن يعمل في الرسالة البولندية بألمانيا من أن الإلغاءات المتكرّرة والقيود المتشدّدة قد تُضعف تدريجيًا حضور الرموز المسيحية في الفضاء العام، وتحوّل الإيمان إلى شأن خاص محض.
مع ذلك، تشدّد الكنيسة في ألمانيا ودول أخرى على ضرورة عدم الاستسلام لثقافة الخوف أو الانجرار إلى شيطنة المسلمين كجماعة، إذ تذكّر بأن المسؤول عن هذه الهجمات هم أفراد وجماعات متطرّفة تسيء إلى الدين الذي تزعم الدفاع عنه، وبأن التقارير الأوروبية نفسها تسجّل أيضًا تهديدات متنامية من اليمين المتطرّف ومن تيارات عنيفة أخرى.
من هذا المنطلق، تبدو مهمة المسيحيين اليوم مزدوجة: السهر على حماية حياة الناس والوقوف إلى جانب الضحايا، وفي الوقت نفسه الدفاع عن الأماكن العامة كمكان لقاء مفتوح، لا كمنطقة خوف مغلقة.
في قلب هذه المفارقة، تظل أسواق الميلاد بالنسبة لكثيرين «امتدادًا لزمن المجيء خارج جدران الكنيسة»؛ حيث تختلط الأناشيد، والمغارات، وأكواب الشوكولاتة الساخنة، بذكريات الطفولة ودفء العائلة. لذلك يرى عدد من الرعاة أن استمرار هذه الأسواق – ولو تحت حراسة مشدّدة – هو بحدّ ذاته فعل رجاء: رجاء بأن لا تُطفئ تهديدات التطرّف نور بيت لحم، وأن يبقى الطفل الإلهي حاضرًا في الساحات الأوروبية، ولو تحيط بها الحواجز الإسمنتية وكاميرات المراقبة.
