في طريق عمواس: خرجا عابسين ورجعا فرحين

إن حقيقة سفر التّلميذين من أوروشليم إلى عمواس يدلُّ على أن جماعة التّلاميذ قد بدأت تتفكك بموت الرَّب يسوع. ويبدو أن الخبر الّذي أحضرنه النسوة عن القبر الفارغ لم يحيِ آمال التّلاميذ بل زادهم حيرة وارتب
02 مايو 2016 - 22:09 بتوقيت القدس

لوقا 13:24-35 "وَإِذَا اثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً اسْمُهَا عِمْوَاسُ. وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ. وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا. وَلَكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ. فَقَالَ لَهُمَا: مَا هَذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟ فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا الَّذِي اسْمُهُ كَلْيُوبَاسُ: هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعلَّم الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ؟ فَقَالَ لَهُمَا: وَمَا هِيَ؟ فَقَالاَ: ﭐلْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ الَّذِي كَانَ إِنْسَاناً نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ. كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ الْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلَكِنْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ الْيَوْمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذَلِكَ. بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ الْقَبْرِ وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلَى الْقَبْرِ فَوَجَدُوا هَكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضاً النِّسَاءُ وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ. فَقَالَ لَهُمَا: أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟ ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ. ثُمَّ اقْتَرَبُوا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ. فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ: ﭐمْكُثْ مَعَنَا لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ. فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ: أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟ فَقَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ وَوَجَدَا الأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الرَّب قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ! وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي الطَّرِيقِ وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ الْخُبْزِ".

نسمع سنوياً في موسم الفصح والقيامة تقريباً نفس الكلام، وخصوصاً في حديثنا عمّا حصل في طريق عمواس يوم قيامة الرَّب يسوع المسيح. ومع ذلك، فسأعيد التّأمل في هذه القصّة لأنها تستحق أن تكرر مرّات ومرّات، فهي تقع في قلب الإنجيل، وتسلّط الضوء على الرّجاء الحي الّذي لا ولن يوجد إلّا في قيامة ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح. كتب بولس الرّسول إلى الكنيسة في كورنثوس قائلاً: "إِنْ كَانَ لَنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي الْمَسِيحِ فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ النَّاس. وَلَكِنِ الآنَ قَدْ قَامَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ الرَّاقِدِينَ". (كورنثوس الأولى 19:15-20).

ولكن في يوم القيامة، أي قبل أكثر من ألفي عام، لم يتجسد هذا الرجاء الحي في حياة واختبار التلميذين كَلْيُوبَاسُ وزميله أثناء سفرهما في الطريق القديم من أوروشليم إلى عمواس.

في طريق عمواس

دعونا نتأمل وضع هذين التلميذين أثناء سيرهما في الطريق الى عمواس، ونحاول أن نسلّط الضوء على حالتيهما:

1) كان قلباهما منكسرين: اختبر التلميذان حزن وألم الموت، وفراق المعلَّم والرَّب والقائد. لقد كانا يعانيان من خيبة الأمل والشّكوك والحيرة والهزيمة. لذلك تركا الرّسل في حالة يأس وانخفاض للمعنويّات والإحباط وأرادا الخروج من الجو الكئيب بالعودة إلى بيتهما في عمواس. تأمل ما قاله الإنجيل المقدّس عن حالتهما:
آية 17 "عَابِسَيْنِ". بسبب الحزن والألم والخسارة.
آية 21 "كُنَّا نَرْجُو".أي فقدا الرجاء.
آية 22 "حَيَّرْنَنَا". كانت الحيرة تملأ حياتهما.

لقد صُلِبَ المعلَّم الّذي وَقَّراه وأحبّاه وتبعاه. لقد قُتِلَ بطريقة وحشيّة وفظيعة، قتل صلباً، أي بأكثر طريقة مخجلة، حيث جُعِلَ الرَّب منظراً للعالم لكي يشاهده الجميع معلّقاً على الصّليب. هتفت الجموع قبل أسبوع واحد من الصّلب: "أوصنّا" لهذا المعلَّم، وارتفعت المعنويات بقرب الخلاص من روما وجنودها. ولكن من تعلّقت به الآمال هو الآن ميتٌ ومدفون في قبر حجري. لقد تلاشت الأحلام وتحطّمت الآمال.

إن حقيقة سفر التّلميذين من أوروشليم إلى عمواس يدلُّ على أن جماعة التّلاميذ قد بدأت تتفكك بموت الرَّب يسوع. ويبدو أن الخبر الّذي أحضرنه النسوة عن القبر الفارغ لم يحيِ آمال التّلاميذ بل زادهم حيرة وارتباكاً. لقد تحطّم عالم التّلاميذ، وبدأت علامات تفكك المجموعة، ودليل ذلك أن تلميذين محبطين تركا بقية التلاميذ ليعودا إلى بيتهما، وقد لَخَّصا موقفهما بالقول: "وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ" (لوقا 21:24).

رجاء وأمل الإنسان شيء هش، وسريعاً ما يزول. وفي حالة زواله، من الصّعب إعادته إلى حالته الأولى. إنّ اليأس وفقدان الرّجاء هو مرض يصيب النّفس البشريّة بالإحباط الّذي يصعب علاجه. فعندما نرى شخصاً نحبّه قد ابتلى بالمرض، وبأنّه لا أمل بشفائه، فإنّنا نصاب باليأس، بل أننا نخاف أن يكون لدينا أمل ولو ضئيل جدّاً حتّى لا نفشل ونيأس من جديد.

لقد أصاب اليأس تلميذي عمواس. وقالا بصراحة: "كُنَّا نَرْجُو" أي أنّهما فقدا الأمل نهائيّاً. فالأمل الّذي كان ملتهباً وحيّاً انتهى ومضى. كانا في مرحلة شك وهزيمة وخيبة أمل. كانا بلا رجاء، بل مات رجاؤهما. وبموت الرجاء، لم يعد لهما مكان في أورشليم، فتركا المدينة بروح الهزيمة إلى عمواس.

وما أكثر الّذين يمرّون اليوم في اختبار عمواس. لقد مات الأمل والرّجاء في حياتهما. لذلك يسيرون في الحياة "عَابِسَيْنِ" مثل تلميذي عمواس.

ما أصعب هذا الموقف. كانا يحلمان بأمور عظيمة، ولكن أحلامهما تحطمت عند الصليب، وسافرا بقلوب منكسرة. لقد تبددت الأحلام وفُقد الرجاء. كثيرون منا اليوم يسيرون في طريقهم مثل تلميذي عمواس: الآمال محطمة، والعبوس على الوجوه، ولا رجاء في الحياة. كثيرون يهربون من واقع مؤلم ولا يختبرون معنىً للحياة المنتصرة، فآمال النَّاس هشّة للغاية. وعندما تتحطم الآمال، يصعب إحياؤها من جديد. فاليأس مرض صعب العلاج.

ولكن الرَّب لم ولن يتركنا في اليأس والإحباط والفشل. وهذا ما فعله مع تلميذي عمواس، وما يزال يفعله اليوم، وسيبقى كذلك إلى الأبد، لأنّه وحده مصدر الأمل والرّجاء في القلوب. هو وحده الّذي يعيد لكل منّا الإحساس بالأمل والثّقة بمستقبل أفضل.

أثناء سير تلميذي عمواس، جاء الرَّب يسوع المسيح الحي والمقام من بين الأموات وسار معهما. ولكن المشكلة مع التّلميذين أنّهما لم يعرفاه كما نقرأ في لوقا 16:24: "أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ". وهذا أمر طبيعي عند الألم والحزن وضياع الأمل. فحالتهما النفسيّة وانشغالهما بالحزن لم يساعدهما على فتح عيونهما والنّظر إلى الشّخص الّذي انضم لمسيرتهما. لقد كانا منشغلين جدّاً بأنفسهما لدرجة أنّهما لم يلاحظا أنّ الّذي سار معهما هو الرَّب بنفسه.

ما أعظم وأروع ربنا يسوع. فهو لا يتركنا في حالة الضياع والحيرة والألم. بل يأتي إلينا في الوقت المناسب جداً. يأتي ليبدد الأحزان، وليحيي الرجاء، وليبعث الحياة من جديد.

سار الرَّب يسوع مع تلميذي عمواس دون إدراكهما، وهو الآن يسير مع كثيرين منا دون إدراكنا. ولكنه كان كالغريب بالنّسبة لهما، مع أنه سار وتحدث معهما. ولم يتغير الحال اليوم: الرَّب يسير مع الكثيرين، ويبارك الكثيرين، ويستمع للكثيرين، ولكنه غريب بالنسبة لهم، فأعينهما قد أمسكت عن معرفته.

والسؤال الذي يبرز هنا: ما الذي أمسك عيونهما عن معرفته؟ هل هو الحزن والغم والحسرة والرجاء المحطم، أم هو التغيير الذي حدث في شكل جسد الرَّب المقام من بين الأموات، فلم يستطيعا معرفته في جسده الممّجد؟

كثير من النَّاس في أيامنا لا يعرفون الرّب يسوع: بسبب زحمة الحياة وكثرة مشاكلها، وبسبب الطقوس والعادات. وبسبب ديانات العالم الباطلة. وبسبب ضعف الإيمان، ومع ذلك فالرَّب دائماً يجدد لنا الفرص لنعرفه كما هو.

سألهما رب المجد يسوع، والّذي كان بمثابة شّخص غريب بالنّسبة لهما: "مَا هَذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ؟" وفي جوابهما، سكبا آلامهما وأحزانهما لشخص كان لديه الاستعداد أن يسمع لآلام قلوبهما. لقد كان بقدرة الرَّب يسوع أن يفاجئهما بالحقيقة المفرحة، ولكنّه تعامل مع الأمر بهدوء وسكينة. فلقد أعطاهما أولاً فرصةً لتفريغ ما في قلبيهما من حزن وألم وخيبة أمل، وبالتدريج قادهما إلى إدراك الحقيقة.

كان تلميذا عمواس بحاجة إلى من يرافقهما وقت الحزن. كانا بحاجة إلى من يستمع لآلام قلبيهما. وهذا ما عمله الرَّب يسوع، وهو ما يزال اليوم كما في الماضي، مستعد أن يرافقنا في مسيرة الحياة المؤلمة، وأن يستمع إلى آلام قلوبنا، ثم قيادتنا إلى النّجاح والخلاص. في المحبّة والاستعداد للسّمع والمرافقة، تحّولت تجربة تلميذي عمواس من انكسار القلب إلى:

2) قلوب مملوءة بالأمل والفرح: بعد أن سألهما الرَّب عن الأمور التّي كانا يتكلمان عنها. أجاب كَلِيُوبَاسُ في الآية 18: "هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعلَّم الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ؟" واضح من الجواب، أن كَلِيُوبَاسُ تشجّع بعض الشّيء بسبب السّؤال، لأنّها كانت فرصة للحديث عن الرَّب يسوع المسيح وسط الحيرة والألم وفقدان الأمل.

لم تكن المشكلة في معرفة الحدث، بل كانت في معرفة غاية الحدث، وتفسيره التفسير الصحيح. قال التلميذ: كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. واضح من الكلام أن المقصود بفداء إسرائيل في كلمات كَلِيُوبَاس هو فداء سياسي، غير عالم أن الرَّب فعلاً قد فدى إسرائيل، وفدى كل العالم أيضاً، وأن هذا الفداء لم يكن سياسيّاً، بل فداء من الخطيَّة والموت والعقاب الأبدي في بحيرة النّار والكبريت. يريد النَّاس فداءً أرضياً مؤقتاً، ولا يريدون الفداء من سلطة الخطيَّة والموت.

إذا تأمّلنا فيما قاله كَلْيُوبَاسُ، فسنجد أنّه كان بسيطاً بسيطاً ومحدوداً في فهمه للأحداث، فقد قال عن الرَّب: "أنّهُ كانَ نَبِيّاً مُقْتَدِراً فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ". المهم هنا أن نلاحظ صيغة الفعل: "كان" أي في الماضي. أي أن اختبارهما مع الرَّب أصبح شيئاً من الماضي، وأما الآن فهما منسحقي النّفس والرّوح، فلقد أخذ الموت الرَّب منهما، ولم يستوعبا التغيير الّذي تم، فالصّليب كان فظيعاً وأنهى كل آمالهما. نلاحظ هنا أن كَلْيُوبَاسُ قال عن الرّب يسوع بأنّه كان "نبيّاً". فمع أن الرَّب يسوع علَّم التلاميذ أنه والآب واحد، وأنه الطريق والحق والحياة، ومن رآه فقد رأى الآب. أي علَّمهم أنه الله، ومع ذلك لم يستوعبا ولم يفهما ما قاله لهما.

نسمع من وقت لآخر شهادات واختبارات عمّا عمله الرَّب يسوع في الماضي، ولكن ما الّذي يعمله الآن؟ فالماضي أصبح جزء من التاريخ، وعلينا كمؤمنين أن نسأل: ما الّذي يعمله الرَّب يسوع الآن في حياتنا وفي كنيستنا وبلادنا بل وفي العالم أجمع؟ هل ندرك حقاً حضور الرَّب اليومي معنا؟ أم أن مُلهّيات الحياة، مثل العمل والروتين والتّعب والصّحة والمرض والمناسبات، تبعدنا عن الرَّب، بحيث لا نعود نرفع عيوننا ولا نفتح عقولنا بعيداً عن أمور الحياة اليومية الأرضية؟ يبدو أننا لم نعد ندرك المجد والقوّة من حضور الرَّب معنا. ما أسهل أن تفقد الحياة معناها، ولكن ما حدث في الطّريق الى عمواس يعيد لنا الرّجاء.

ما يزال الرَّب معنا. ما يزال هو الضّيف غير المرئي، يسير معنا، ويستمع إلى آلام قلوبنا. فالمشكلة ليست عنده بل المشكلة فينا. فإن أردنا أن نسمع صوته، وإن أردنا منه أن يعلن ذاته لنا، فهو مستعد دائماً، ولكن هل نحن مستعدين؟!

بعد أن تكلّم كَلِيُوبَاسُ عن الألم والموت والصّليب، حان الوقت للرَّب يسوع أن يجيبهما بكلمات تبعد الحزن والحيرة وتملأ القلوب بالحياة والرّجاء. وقد عمل ذلك بالإشارة إلى وحي الله في الكتاب المقدس، حيث "ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ" (لوقا 27:24). لقد أعطى الرَّب يسوع تلميذي عمواس أجمل درس في تفسير العهد القديم. وعندها فقط فهما نبوّات وظلال ورموز العهد القديم. لا بد أنّه حدّثهما عن الصّراع القديم بين الحق والباطل، وأخبرهما عن سقوط آدم وحواء في الخطيّة ووعد الله لهما بالخلاص. وعن إبراهيم وفداء إبنه اسحق بالذّبيحة. وعن حَمَل الفصح. وعن الحيّة النحاسيّة. وعن جميع ذبائح العهد القديم ودلالاتها. وعن الخروج العظيم من مصر. وعن النبوّات الكثيرة وخصوصاً ما يتعلّق بالعبد المتألم في إشعياء. وأهم ما قاله لهما: "أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهَذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟" (لوقا 26:24).

لقد كانت مشكلة التلميذين هي في فهم رسالة الصّليب وقبول حقيقة ما جرى، لذلك ساعدهما الرَّب على إدراك أن الصّليب هو الطّريق الوحيد للفداء والخلاص والحياة الأبدية. وكيف أن صليب العار والآلام قد أصبح صليب المجد والأفراح، وبانه أساس الخلاص والفداء لكل من يأتي إلى الرَّب يسوع بالتّوبة والإيمان.

عندما يأتي الرَّب يسوع إلى حياتنا، فإنّه يُشْعِل أفكارنا بقصد أن يباركنا، والسّؤال هو: كيف نتجاوب معه؟ هل نقبل مبادرته ونجعله يكّلمنا مثلما فعل مع تلميذي عمواس؟ أم نرفضه ونبقى في فشلنا وحزننا؟ هل نتكّلم ونجترّ آلام الماضي وخبراتنا السّيئة ونعيش في الماضي؟ أم نسمح لكلمات الرَّب يسوع أن تشفينا وتزرع الأمل في وجداننا؟

كان تلميذا عمواس يرجوان أن يكون المسيّا رجل حرب وقوّة لمواجهة روما، ولذلك لم يستطيعا فهم كل ما جاء في العهد القديم عن آلام وموت المسيّا المنتظر. ولكن بعد أن استمعا لشرح العهد القديم على لسان الرَّب نفسه، أرادا الاستماع أكثر وأكثر، لدرجة أن:
3) اشتعلت قلويهما باختبار جديد: أثناء حديث الرَّب معهما، لم يدرك تلميذا عمواس المدة الزمنية التّي مرّت بشكل سريع عليهما. وعندما اقتربا إلى عمواس، لم يرد الرَّب يسوع أن يفرض نفسه عليهما "فَتَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ" (آية 28). لن يأتِ الرَّب إلى حياتنا بدون دعوة شخصيّة منّا. فهو يريد أن نطلبه بإرادتنا، وهذا ما فعله تلميذا عمواس حيث نقرأ أنّهما "أَلْزَمَاهُ"، أي طلبا منه بإلحاح. وهذه هي الدّعوة التّي يتوقّعها الرَّب من كل إنسان في الوجود. الله يريدنا أن نطلبه من كلّ القلب. الله يريد منّا أن نستخدم إرادتنا الحرّة في طلبه وفي الّلجوء إليه. الله يترك لنا حرية الإختيار، فالقرار يعود لنا.

في الواقع إنّ الرَّب لم يكن بحاجة إلى دعوة منهما، فقد كان بمقدوره المجيء معهما، ولكنّه لم يبادر إلّا بدعوتهما بعد أن أشعل قلوبهما بكلامه المشجّع والمنير للعقل والقلب.

في البيت، تم تحضير عشاء بسيط لثلاثتهم، وقبل تناول الطعام، "أَخَذَ خُبْزاً وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا"، هذه الحركة من قبل الرَّب كانت اللحظة الحاسمة والأخيرة التي ساعدت التلميذين ليدركا حقيقة الشّخص الّذي رافقهما وحدّثهما في الطريق. لقد تذكّرا موضوع البركة وكسر الخبز، وشاهدا آثار المسامير على يديه وهو يكسر لهما الخبز، لذلك "انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ" (لوقا 31:24).

ما زالت عيون الملايين في العالم مغلقة، وما يزال عدو النّفس يغلق بصيرة النَّاس لكي لا يعرفوا حقيقة الرَّب يسوع، لذلك علينا أن نصلّي لكي يساعد الله العالم أن يفتحوا عيونهم ويعرفوا من هو يسوع.

اختفى الرَّب يسوع عنهما بعد أن انفتحت عيونهما. فلم يعد موجوداً معهما في الجسد، ولكنّه معهما ومعنا حتّى اليوم بالرّوح. وعندها قالا: "أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِباً فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟" (لوقا 32:24). التهب قلبا تلميذي عمواس من حديث الرَّب. وصلاتي اليوم أن تلتهب قلوبنا أيضاً عندما نقرأ أو نسمع كلمات الرَّب يسوع. صلاتي أنّ يحيي الرّوح القدس قلوبنا جميعاً لكي ندرك كم نحن بحاجة إلى الرَّب يسوع في كل يوم من أيام حياتنا.

ربما أن البعض منا مثل تلميذي عمواس، يسير في طريق الحزن والألم والحيرة والفشل، حيث لم يلتقِ بعد بالرَّب يسوع. ربما أن بعضنا ما يزال يبحث عن إجابة لما يمر به من وقت صعب ومن ألم في الحياة. ولكنّنا نحتاج حقاً إلى نار تلهب قلوبنا لندرك معنى قولنا أنّ الرَّب يسوع قام، وأنّه حي، وأنّه معنا، وأنّه هو الرّجاء الوحيد لعالمنا.

لم يضيِّع تلميذا عمواس الوقت، وعادا إلى أورشليم لإخبار التلاميذ بالخبر العظيم. فهل نسرع إلى العالم لنخبرهم بأن الرَّب حي؟ وأنّه يحبّهم؟ وأنّه يريد لهم الحياة الأفضل في هذا العالم، والحياة الأبديّة في السّماء؟

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا
التعليق على مسؤولية المعلق فقط وهو ليس بالضرورة رأي الموقع
1. جورج عبد الشهيد 06 مايو 2016 - 23:56 بتوقيت القدس
طبيعة السيد المسيح طبيعة السيد المسيح
هل السيد يسوع المسيح عندما كان مع تلميذي عمواس كان بصفته اللاهوتيه ام الناسوتيه وشكرا لكم
1.1. القس بسام بنورة 07 مايو 2016 - 01:35 بتوقيت القدس
في الطبيعتين
يقول الكتاب المقدس بوضوح: الله ظهر في الجسد. ويقول ايضا: الكلمة صار جسدا. فالرب يسوع المسيح من لحظة تجسده هو هو لم يتغير . هو الله الظاهر في الجسد. اي ان جسد المسيح كان بمثابة الهيكل الذي حل فيه اللاهوت. ولم يفارق اللاهوت جسد الرب يسوع الا لحظة الموت والدفن، ثم عاد اللاهوت الى الجسد، وهكذا قام الرب يسوع من بين الأموات. وهنا علينا ان نتذكر ايضا كلمة الله في العهد الجديد والتي تقول ان المسيح "مماتا في الجسد ولكنه محيا بالروح. ليبارك ربنا يسوع حياتك وشكرا للسؤال
2. خادم المسيح 25 مايو 2016 - 15:58 بتوقيت القدس
بعد القيامة لا يوجد طبيعتين، بل طبيعة واحدة، اللاهوت وحتى لو ظهر كالبشر بعد القيامة لا يوجد طبيعتين، بل طبيعة واحدة، اللاهوت وحتى لو ظهر كالبشر
عندما نعلم عن طبيعة الناسوت واللاهوت، نعني بها الفترة التي كان بها المسيح يعيش كإنسان خاضع لقوانين البشر "الذي أيام جسده" (عبرانيين 5: 7)، وأيضًأ عمل جميع معجزاته كإنسان معتمد على سلطان الله الاب، ولم يمارس سلطانه اللاهوتي في حياته البشرية الخاصة، بل استمر بممارسة سلطانه اللاهواي الكوني كأقنوم الله الابن خارج عن إطار حياته الخاصة. لكن بعد القيامة، أقنوم الله الابن الظاهر في الجسد، انتهت طبيعته الناسوتية، لذلك الكتاب يؤكد أننا بعد القيامة يجب أن لا نعرف المسيح كما عرفناه بالناسوت أبدًا، وحتى عندما ندعوه ونصلي له، نحن لا نخاطب الناسوت أبدًا، بل اللاهوت فقط، وهذا يؤكده الوحي: "16 إِذًا نَحْنُ مِنَ الآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَدًا حَسَبَ الْجَسَدِ. وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ" 2 كورنثوس 5. لذلك عندما التقى مع تلميذي عمواس، التقى بهم كأقنوم الله الابن، ودوره في الثالوث الإلهي هو الإعلان التعبير المرئي للذات الإلهية (مثل أقنوم الجسد في الإنسان، يعبر ويُظهر مشيئة النفس والروح) لذلك الذي ظهر لتلميذي عمواس هو نفس أقنوم الله الابن الذي ظهر لإبراهيم (في تكوين 18، ويعقوب في تكوين 32... إلخ.