أديث بياف في قطار الإنصاف – ثانيًا

توقف القسم الأول من المقالة عند محطّتين في حياة أديث پياف؛ الأولى: الصدفة. والثانية: التمسّك بالصليب. وقد كان صليبًا بالمعنى الحرفي. أمّا بالمعنى الروحي فقد حملت هذه السيدة الموهوبة صلبانًا كثيرة متنوّعة
09 مايو 2014 - 15:05 بتوقيت القدس

توقف القسم الأول من المقالة عند محطّتين في حياة أديث پياف؛ الأولى: الصدفة. والثانية: التمسّك بالصليب. وقد كان صليبًا بالمعنى الحرفي. أمّا بالمعنى الروحي فقد حملت هذه السيدة الموهوبة صلبانًا كثيرة متنوّعة؛ هي الفقر المادّي، تحدّيات الوسط الذي نشأت فيه وترعرعت، شقّ طريق الشهرة الشائك بكرامة، معاناتها الروحية وأوجاعها الجسدية حتى آخر لحظة في حياتها. لكنها مع ما تقدّم تمسّكت بمبادئها وتفاءلت بالمستقبل، إذ غمرت أخلاقها المحبةُ والمصداقية على رغم التجارب القاسية والظروف الصعبة. هذا ما دلّ عليه جوابها على أسئلة شابّة صحافية حظيت بلقائها في باريس خلال الأيّام الأخيرة (6) ومنها؛ ما لونك المفضّل: الأزرق. مَن هم أصدقاؤك الأوفياء؟ جميع مَن ربطتني بهم صداقة حقيقية. ما شعورك حين تفقدين القدرة على الغناء؟ تنتهي حياتي. هل تخافين الموت؟ أخشى الوحدة أكثر من الموت. هل تُصَلّين؟ نعم، لأني أؤمن بالمحبّة. بماذا تنصحين المرأة؟ بالمحبة. بماذا تنصحين الصَّبيَّة؟ بالمحبّة. بماذا تنصحين الطفل-ة؟ بالمحبة. لمَن تحُوكين هذا الثوب؟ لأيّة امرأة تريد ارتداء ثوبي.

المحطة الثالثة: الموهبة

سبق لي التأكيد على أن الله جلّ قدره هو الواهبُ الناسَ مجّانًا جميعَ المواهب وهو موزّعها على مستحقّيها ومستحقّاتها. فلولا ثقافة پياف المسيحية عاملة بآية السيد المسيح: {مَجّانًا أَخَذتُمْ، مَجّانًا أَعْطُوا- متّى 8:10} لتوانت في مساعدة غيرها للوقوف على قدميه-ا في مجال الفن وتحديدًا الغناء والتمثيل ولا سيّما فنانين أصبحوا كبارًا في ما بعد، مثل إيف مونتان وشارل أزنافور (7) وتاليًا ما تألّق نجمُها ولا اٌتّسعت شعبيتها. ولولا إيمانها، الباطني وغير الظاهر للمَلإ إلّـا بالصليب، لَمَا جعل اللهُ من موهبتها، المبارَكة من لدن الله ذاته، سببًا لطفوّ مواهب جديدة لآخرين وأخريات على سطح الفن ونموّها. ولولا أصالة موهبة پياف ونقاء قلبها وصدق إحساسها ورقيّ فنّها وروعة أدائها، بتمكّن وثقة، بدون حاجة إلى حركات استعراضية، لَمَا تعاقب عدد من أشهر الفنانين، من الجنسين، على أداء أغانيها؛ لعلّ في مقدمتهم ميراي ماثيو، أسطورة فرنسا الجديدة، الخالدة خلود پياف والتي تربعت على عرش الغناء بعد رحيل پياف. مثالًـا أغنية "الحياة الوردية" التي تُعدّ أشهر أغانيها على الإطلاق (8) غنّتها ميراي ماثيو، وتغنّت بالأغنية نفسها أجيال متعدّدة من جنسيات مختلفة، كالإيطالية داليدا والكندية سيلين ديون والجامايكية گرَيس جونز واللبنانية باسمة وغيرها، والأميركي دين مارتن والإسباني خوليو إگليسياس وغيره. وتعاقبوا على إنتاج ثلاثة أفلام عن حياتها خلال الأعوام 1974 و2003 و2007 وعلى اقتباس الموسيقى التصويرية، في أفلام عالمية كثيرة، من أغاني پياف. وغير ذلك. فأثبتت پياف أنها أهل للموهبة الممنوحة لها وأنها جديرة باستحقاقها وأنها قادرة على تحمّل المسؤولية تجاهها اجتماعيًّا وفنّيًّا.

المحطة الرابعة: الوفاء

كلّما ازداد احتكاك الفرد بالمجتمع تتجه نحوه مشاكل من داخل محيطه وخارجه، سواء المتوقعة التي غالبًا ما تهبّ من جهات الحسّاد والمنافقين والانتهازيّين، وغير المتوقعة التي تعصف تارة من جهة قريب وتارة من جهة صديق. والثانية أكثر إيلامًا من الأولى وأشدّ وقعًا في النفس. وفي ميدان شائك كالسياسة والأدب والفن أمثلة غنيّة عن التعريف لشخصيات دفعت الغالي والنفيس من أجل الحفاظ على منازلها وتجنّب عراقيل الحياة ما أمكن. وقد تطرأ على الواحد منّا ظروف هي في الغالب خارجة عن دائرة التوقّعات. وقد يتعرّض بعضنا لموجات عاطفية قد ترمي به إلى جرف غير المنشود أو ساحل غير المأمول ولا المرغوب فيه. فإذا ما وصل إلى الضفة المطلوبة، التي يظنّ هي السّويّة، يتعلّق بالنجمة التي فوق الضفة ويشكر الموجة التي رمته عليها فيقرّر المشي عليها حتّى النهاية. لذا تعلّقت أديث پياف بالحبّ الوحيد، بحسب مصادر سيرتها، وهو الحب المتبادل بينها وبين الملاكم الفرنسي مارسيل سردان (9) الذي فقد حياته سنة 1949 خلال حادث تحطّم الطائرة التي انطلقت به من فرنسا باتجاه نيويورك، قاصدًا حضور حفلة لـ أديث پياف هناك. ما أدّى إلى تعرّض پياف لصدمة نفسية عنيفة، حتّى تغيّر منظرها فجأة؛ إذ قصّت شعرها وظهرت بثياب سوداء طوال العمر تعبيرًا عن حزن شديد وعميق، إذ اعتاد الناس على اللون الأسود للتعبير عن الحزن أكثر من سواه. بعدئذٍ كتبت پياف " ترنيمة للحبّ" بقلمها (10) لمارسيل وتحديدًا بعد أسبوعين من الفاجعة، غنّتها في نيويورك لكن سجّلتها في السنة التالية. أمّا مَن يقرأ كلمات الأغنية فيستنتج أنّ پياف لم تحزن كمَن لا رجاء له، ولا سيّما قولها ما معناه: (لأنني سأموتُ أيضًا، سنحظى بالحياة الأبديّة معًا، في الزرقة العظيمة الاتساع، إذ لا مزيد من المشاكل في السماء) وأغلب ظنّي أنها حزنت طويلًـا لشعورها بذنب ما إزاء مارسيل، كأنه ضحّى بحياته من أجل رؤيتها والاستمتاع بصوتها.

¤ ¤

6 ترجمها الكاتب إلى العربية عن مقطع من الفيلم الأخير (2007) الذي تناول حياة پياف

Charles Aznavour, Yves Montand, Mireille Mathieu 7
 يمكنك العثور على آثار أديث پياف في سِيَر هذه الشخصيات عبر ويكيپيديا

La Vie en rose 8 الحياة الوردية أو الحياة بلون الورد
عنوان فيلم عام 2007 المذكور. وهو مقتبس من عنوان الأغنية التي كتبتها أديث پياف موقّعة بقلمها سنة 1945 وغنتها في السنة التالية، ثمّ تعاقب على غنائها المشاهير المذكورة أسماؤهم-هنّ أعلى بالعربية. والأسماء بحسب ويكيپيديا:
Dalida, Céline Dion, Grace Jones, Dean Martin, Julio Iglesias
عِلمًا أن ميراي ماثيو الصبيّة فازت في منافسة الأغاني العاطفية في مدينتها أڤنيو (جنوب شرقيّ فرنسا) بعد أدائها هذه الأغنية، قبل انطلاقتها الفنيّة الأولى في باريس.

Marcel Cerdan 9
ولد مارسيل سردان سنة 1916 في مدينة سيدي بلعباس (شمال غربيّ الجزائر) وباختصار شديد؛ فاز بلقب بطولة العالم بالملاكمة بالوزن المتوسط سنة 1948 لكنّه خسر اللقب في السنة التالية. فدخل معسكرًا تدريبيًّا في سبيل خوض مباراة ردّ الاعتبار. ثمّ صعد طائرة بعد ذلك، تابعة للخطوط الجوية الفرنسية، مسافرًا قبل موعد المباراة بفترة، لحضور حفلة لـأديث پياف في نيويورك. وقد تخلّل برنامجَ الرحلة هبوط الطائرة في البرتغال، لكن الطائرة تحطّمت في منطقة جبلية في جزيرة ساو ميگيل (ميخائيل) المعروفة باٌسم الجزيرة الخضراء (إحدى جزر البرتغال) أثناء محاولة الهبوط.

Hymne à l'amourترنيمة للحبّ  10

¤  ¤  ¤

 أديث بياف

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا
التعليق على مسؤولية المعلق فقط وهو ليس بالضرورة رأي الموقع
1. الياس طنوس 17 مايو 2014 - 10:13 بتوقيت القدس
الوفاء الوفاء
استمتعت بقراءة هذه السلسلة فبحثت عن معلومات أخرى عن هذه السيدة ويبدو أنه على الأقل في موضوع الحب والوفاء يجب أن يذكر أن هذا الملاكم الذي أحبته كان متزوجا وله 3 أولاد مما يجعل هذا الحب خيانة.
1.1. الكاتب 18 مايو 2014 - 12:41 بتوقيت القدس
الأخ الياس طنوس: شكرًا، لا توجد معلومات دقيقة
سلام المسيح أوّلا. وشكرًا على اهتمامك. لقد مهّدت بسطور عدّة لموضوع هذه العلاقة، إذ قرأت عنها بأربع لغات، كما ذكرت، أضفت إليها اليوم لغتين. لم يذكر مصدر واحد، بأيّة لغة، أن مارسيل "خان زوجته" لكن مصدرًا بالإسبانية ذكر أن هذه العلاقة تصدرت الصحافة الصفراء. فلم أعثر على مصدر واحد يؤيد ما كان مارسيل متصلا بزوجته فعليّا أم منفصلا عنها رسميّا، خلال فترة علاقته مع بياف. ولم أعثر على مشكلة واحدة حصلت بين مارسيل وزوجته بسبب تلك العلاقة. ولا أستطيع تحديد أيّ موقف من تلك العلاقة بدون حجّة مؤيّدة من مصدر موثوق به. فهل أصدّق أكاذيب الصحافة الصفراء وشائعاتها، أم أعتمد على معلومات الصحافة البيضاء؟ علما أني ذكرت مسبّقا بأن الهدف في هذه المقالة هو الوقوف عند محطات مهمة في سيرة أديث بياف- قطعًا المتفق عليه من الصحافة البيضاء- وليس ترجمة حياتها من الألف إلى الياء، ولا التحري عن تهم وُجهت ضدها. مع محبتي