قد تُمسي بعض الصور باهتة اللون وقد يطويها النسيان، لأن الأثر الذي ترك أصحابها، من الجنسين، نقشوه بأدوات بائسة وفي لوح رخو تعرّض للتصدع والكسر والانهيار. أمّا الإيقونات فهي الصور المنقوشة بأفئدة نقيّة لا يغادرها الندى وفي لوح صلد حتّى يُصبح منقوشًا في الذاكرة؛ مثلما فعلت شخصيّات عالمية في حقول الحياة المختلفة، منها الدينية والأدبية والفنية والعلمية والسياسية. فمن الشخصيات الفنية المطربة الفرنسية الراقية أديث بياف (19 ديسمبر 1915- 10 أكتوبر 1963) المسمّاة بالعصفورة الصغيرة (1) التي اعتبرها الفرنسيون إيقونة فرنسا ولا سيّما خلال الحرب العالمية الثانية، نظرًا لدورها في دعم المقاومة الفرنسية ومساعدة عدد من المعتقلين، ومنهم يهود، على الهرب من المعتقلات النازية. أمّا صوتها فقد جعل منها إيقونة فنيّة عالمية. يمكن العثور على مزيد من سيرتها في كتب ومقالات وفي الموسوعة الحرة بغالبية لغات العالم. لأن هدف هذه المقالة التوقف عند خمس محطّات من عمرها القصير نسبيًّا والتأمل فيها، وليس لترجمة سيرتها ولا عرض أغانيها التي سحرت القلوب والألباب وأسعدت الملايين وأبكتهم في الوقت عينه.
المحطة الأولى: الصدفة
ولدت أديث لوالدين فرنسيّين؛ اسم الأب لويس-ألفونس واسم الأم أنيتا. صحيح أن والد أنيتا فرنسي، لكنّ والدة أنيتا من أب إيطالي اسمه أوغوست وأمّ مغربية اسمها عائشة. وقد احتضنت الجدّة عائشة حفيدتها أديث فترة قصيرة من زمن الطفولة، لأن أنيتا تركت ابنتها أديث منذ الولادة، ثمّ قام والدها بخطفها من أحضان الجدّة المغربية، في السنة الثانية من عمرها، إلى أمّه (ليونتين) المقيمة في نورماندي (2) لتهتمّ بها، في وقت كانت الجدّة الفرنسية تدير بيتًا لبائعات الهوى.
إذًا شاءت الصدف أن تتدخل ثلاث جنسّيات في ولادة أديث هي الفرنسية والإيطالية والمغربية. وهذا لا يعني بالضرورة وراثة أديث ثلاثة مصادر من الجينات! ولا يدلّ على تأثر طفولتها بثلاث ثقافات وأزيد، لأنّ براعم وعيها لم تتفتح بعد. فما إن تفتحت حتى أدركت معنى الهوى لكنها لم تبِعْهُ! بل دفعت من مالها لأحد الأوغاد في مقابل الكفّ عن إجبارها على بيعه.
وأدركت أن أباها كان ممثّلًـا سابقًا لكنه اضطرّ إلى عرض حركات بهلوانية في شوارع فرنسا لكسب لقمة العيش بشرف، ساعدته وهي في سنّ الرابعة عشرة، إذ أطلقت لحنجرتها المدهشة العِنان خلال مرافقته. ذلك في وقت وتحديدًا زماننا هذا، يؤدي مثل تلك الحركات بعض السياسيّين ومنهم وزراء، وبعض المتديّنين ومنهم رجال دين، خلف أربعين سِتارة وستين قناعًا، لكي يخدعوا شعوبهم فيبتزّوها.
وأدركت أن اسمها أديث قد أطلِق عليها تخليدًا لذكرى الممرضة البريطانية أديث كافيل (3) شهيدة الوطن التي أصدر الألمان النازيّون ضدّها حكمًا بالإعدام تمّ تنفيذه في الثاني عشر من أكتوبر 1915 أي قبل ولادة أديث بياف بحوالي شهرين.
لكنّ من المعلوم، لدى كلّ مؤمن-ة بالله جلّ قدره، أنّ الله يمتاز بتوقيت الأحداث بدقّة نسبتها 100% لذا لا يوجد مكان للصدفة في قاموس المؤمن-ة. فقد قال الله في كتابه، مخاطبًا إرميا النبي: {قبلما صوّرتُكَ في البطن عرفتُك وقبلما خرجتَ من الرحم قدّستُك. جعلتك نبيًّا للشعوب} – إرميا 5:1
- - -
المحطة الثانية: التمسُّك بالصليب
أصيبت أديث بياف ما بين السنتين الثالثة والسابعة من عمر الطفولة بالعمى، نتيجة لالتهاب القرنية؛ ما ألهم بائعات الهوى، العاملات لدى جدّتها الفرنسية، أن يجمعن مبلغًا من المال لتحجّ به أديث إلى القديسة الكاثوليكية تيريزا (4) الشهيرة بـ تيريزا الطفل يسوع، التماسًا لشفاعتها عند الرب يسوع لعلّها تشفى، حتّى تمّت معجزة الشفاء بحسب ادّعاء أديث بياف شخصيًّا. لكنّ محور هذه المقالة ليس موجّهًا باتجاه الشفاعة ولا أنواعها! ولا بقصد إثارة الخلاف بين الطوائف المسيحية عليها، مع الأسف، ونصوصها واضحة في أسفار الإنجيل حرفيًّا ومعنويًّا. لعلّ نعمة الشفاء كانت وراء تمسّك أديث بياف بالصليب متدليًّا على صدرها طوال حياتها وفي جميع المناسبات، سواء أكانت محليّة أم عالميّة، متديّنة بقلبها وبطريقتها، إذ لم يظهر عليها مظهر من مظاهر التديّن سوى الصليب. ولا تدل سيرتها الذاتية على أنها قصدت بالصليب التبشير بالمسيحية، لكن اعتزازها بأهم الرموز المسيحية قد يدلّ على عرفانها بالجميل الذي خصّها الربّ به، إذ شفاها من العمى الجسدي الذي عانته حوالي أربع سنوات، بعدما وصلت إلى الربّ رائحة بخور بائعات الهوى!
فإذا صحّ ادّعاء بياف فإنّ الرب قد قبل تقدمة بائعات الهوى؛ ما يذكّر المؤمنين والمؤمنات من القرّاء الكرام بقبول الربّ تقدمة المرأة الخاطئة التي قبّلت رجله، في بيت عنيا وتحديدًا في بيت سمعان الابرص، ودهنتها بطيب غالي الثمن، حتّى أوصاها بأن تحتفظ بالطِّيب المتبقّي ليوم تكفينه: متّى\ 26 ومرقس\ 14 ولوقا\ 7 ويوحنّا\ 12
والجدير ذكره بالمناسبة؛ صليب سائحة روسية شابة تُدعى كاتيا إيفانوفا (5) التقيتها في أحد شواطئ ليماسول\ قبرص سنة 1999 فسألتها: لماذا يتدلّى صليب ذهبيّ على صدرك وأنت بعيدة عن الدين؟ فأجابت مترددة ما بين الزينة والموضة. لكنّ من يبحث في سيرة أديث بياف لن يعثر على الزينة المقصودة في جواب السائحة الروسية، التي زيّن صدرها الصليب من الخارج، إنّما يعثر على الصليب الذي زيّن أعماق أديث، حتّى نُحِت على قبرها أيضًا.
وفي النهاية أسأل ربّ الصليب أن يزيّن حياة الناس من الداخل والخارج معًا، وأن يصبح الصليب موضة جميع العصور والأمكنة، فيقينًا أن موضة الصليب هي الأقدم وهي الأطول عمرًا بين الموضات.
¤ ¤
Édith Piaf: The Little Sparrow 1
Normandie 2
من نورماندي (شمال غربيّ فرنسا) انطلقت حملات الحلفاء في السادس من يونيو سنة 1944 لتحرير أوروبا من احتلال ألمانيا النازية
Edith Cavell 3
كانت تعمل في بلجيكا ممرضة تدريب في ثلاثة مستشفيات و24 مدرسة و13 روضة للأطفال. بيتها في العاصمة بروكسل كان من ضمن مخابئ جنود بريطانيين وفرنسيين وشبّان بلجيك، في سنّ الخدمة العسكرية، ساعدتهم بالمال والإرشاد على الهرب من الأخطبوط الألماني النازي إلى هولندا وبريطانيا
Saint Thérèse of Lisieux 4
5 كاتيا وإيفانوف-ا من الأسماء الشائعة جدّا في روسيا وغيرها