تسنح لي بين الفينة والفينة فرص لحضور حفلات استقبال رسمية يشترك فيها مسيحيون وأبناء ديانات أخرى ويتقدمها شخصيات من الملل المختلفة في بلادنا. وتعلو الخطابات الرنانة في هذه اللقاءات، وما يفاجئني المرة تلو الأخرى هو الخطاب السائد عند المسيحيين من أصحاب الوظائف القيادية أو رجال الدين المسيحيين في مثل هذه اللقاءات.
تتميز هذه الخطابات بسمو الحديث عن التآخي والتعايش بين أبناء الشعب الواحد من الديانات المختلفة، وليس في ذلك خطأ. بل على العكس- إذ يسود التقطب الطائفي في مجتمعنا أكثر من أي وقت مضى وأصبحت الانعزالية والتقوقع بين أصحاب الدين الواحد أكثر رواجاً من الماضي. هذه الخطابات الداعية للمحبة والاحترام والألفة تعمل لمناهضة أجواء التشرذم العامة.
لكن ما يرافق هذه الخطابات أيضاً هو "تخفيف" خطير للعقيدة المسيحية بهدف جعل الاختلاف بينها وبين الديانات الأخرى ضبابياً أو حتى غير مرئي. يتوق هؤلاء القياديين ورجال الدين التقرب والتزلف لمؤمني الديانات الأخرى، فيتنكرون لإيمانهم وعقيدتهم عن طريق عرض ما هو مشترك فقط بين الديانات. لا يتورع هؤلاء حتى عن إصدار نسخة معدّلة من إيماننا اشك بمطابقتها للإيمان القويم.
ما يحضرني في مثل هذه الحفلات وعند سماع هذه الخطابات هو قول بولس: لست أستحي بإنجيل المسيح، لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن» (رومية 1: 16 ).
لا تقتصر هذه الظاهرة على الخطابات في مثل هذه الحفلات بل تنتشر في الحيز العام - ساحة التملق.
نادراً ما يُذكر اسم "يسوع" في هذه اللقاءات كما تغيب اقتباسات لآيات من الإنجيل فيها (مع أن مؤمني الديانات الأخرى يتمتعون أحيانا كثيرة بجرأة أكبر ولا يخجلون من المجاهرة والاقتباس من كتبهم المقدسة) ناهيك حتى عن الصلاة – حتى في حفلات استقبال بمناسبة اعياد مسيحية مثلاً.
هذا المنحى الخجول / المتخاذل يناسب عقلية أهل الذمة التي عاشها المسيحيون واليهود في البلاد الإسلامية لقرون طويلة وجاءت لغرض تملق الأقلية للأغلبية. كان التسامح تحت كثير من الخلفاء محدوداَ للغاية واضطر المسيحيون الى طأطأة الرأس والمشي" الحيط الحيط والقول : يا رب السترة". للأسف ما زالت رياح الذميّة عاصفة في أرجاء شرقنا.
لست ادّعى انه يتوجب في مثل هذه الحالات إبراز الخلافات ومناكفة الغير ولا أن تتحول مثل هذه اللقاءات لتحدي واستفزاز الآخرين، ولكنه أيضا لا يعني حجب حقيقة إيماننا فقط لنساير من لا يؤمنون به ولتآخي زائف مبني على أشباه الحقائق.
من الضروري استنباط القيّم والعقائد التي تشكل قاعدة مشتركة بعد ان يتعرف مؤمنو الديانات على أسس عقائد الآخرين دون وجل وباحترام المختلف بينها.
لكن هذا المنحى الذي يصور المسيحية كأنها مطابقة للإسلامية أو اليهودية أو الدرزية ليست بصحيحة ويغش بذلك غير المسيحيين فيوهمهم بما هو مناف للحقيقة. يتجلى ذلك في تقليل شأن يسوع بحيث يسمونه "نبي" أو "سيد" مع انه أكثر من ذلك بكثير- فهو ملك الملوك ورب الأرباب وهو مخلص البشرية والخالق والفادي...أو بوضع كتابنا المقدس بنفس مرتبة كتب الآخرين.
هذا التشويه لحقيقة إيماننا يمس بتصوير هويتنا الإيمانية أمام الآخرين ويظهرها بشكل مخالف للحقيقة، وهكذا تكون هويتنا المسيحية كما تتجلى في أعين الآخرين منقوصة ومبتورة ولا تُكسب الاحترام. انها مسيحية "مقطوشة" تم فيها خلط مياه نهر الأردن بمياه من انهار ابانة وفرفر أو نار الروح القدس التي تسللت اليها النار الغريبة. انها مسيحية زيرو في أحسن حالة.
هذا العرض المبتور لإيماننا المسيحي هو أيضاً خيانة للإيمان المسلّم للقديسين الذي استلمناه من الرب ورسله كما انه سبب لارتباك للمسيحيين نفسهم الذين يسيرون في ضلال حين لا تكشف أمامهم كما أمام غير المسيحيين حقيقة وجوهر إيماننا- ما ننفرد به وما نشارك به الآخرين. انها رسالة ربانية عظيمة لخلاص البشرية ويتحتم علينا المحافظة على نقائها.