صخب العالم وهاج في الاشهر الأخيرة كمحيط هبت عليه عاصفة مجنونة. لم تهدأ ثورات الربيع العربي بعد حتى ابتدأت الاحتجاجات الاقتصادية. وبدل لقطات الفيديو الملتقطة من تلفونات نقاّلة لقنّاصة بشار الأسد في دير الزور في سوريا، أصبحنا نتابع فيديوهات مناوشات شباب برمنجهام ولندن مع شرطة جلالة الملكة في انجلترا. لم نكد نستوعب عبثية محاكمة الرئيس المصري المخلوع والمريض حسني مبارك وهو مستلق على سريره وراء القضبان حتى انتشرت صور خيام الاحتجاج والمظاهرات في جادّة روتشيلد في تل أبيب على السكن والأسعار الخيالية لجبن الكوتدج...
ككل يتميز صيف 2011 بمظاهرات سياسية واقتصادية في أماكن عديدة في العالم. كلنا متفرجون ومحللون، فتارة ندين الحاكم الفلاني وتارة نخلق الأعذار لحاكم آخر.
كيف يحكم المؤمن المسيحي ويقيّم جوانب الاضطرابات المختلفة؟ سأعرض فيما يلي معياراً واحداً فقط للتقييم.
يعتقد الكثير من المؤمنين المسيحيين ان الرب مهتم بخلاص النفوس فقط ولا يهمه أي شأن آخر في الحياة على الأرض. لست من هؤلاء، إذ اعتقد أن الرب مهتم بأن تطبق مبادئ ملكوته أيضا مثل العدل والرحمة والصدق والأمانة والشفافية والمسؤولية حتى في انظمة الحكم العالمية (انظر مثلاً ميخا 6 : 8 أو عبرانيين 1 :27 على سبيل المثال وليس الحصر). وأصلاً تطبيق أحكامه وناموسه في المجتمعات يخلق أجواء روحية منفتحة لعمل الرب.
الرب يفرح بأن ينتهج الفرد أو الدولة أو المؤسسة أو العائلة المبادئ التي تتناسب مع الحق الانجيلي حتى لو كان هؤلاء غير مؤمنين أو حتى غير مسيحيين. ومن هنا اشتملت الصلاة الربانية عبارة "ليأت ملكوتك". أراد الرب ان تسري أحكامه على الأرض ومن هنا أرسى الرب أيضاً مبادئها في الموعظة على الجبل.
لسنين طويلة تساءلنا متى ستسقط الأنظمة العربية الفاسدة في الشرق الأوسط. سخر العالم بالعرب وبتخلفهم ولم تسعف العرب قياداتهم بل على العكس- كرست هذا التخلف. أخجلتنا هذه الأنظمة بممارساتها القمعية ضد شعبها وضد الأقليات (وعلى رأسهم المسيحيين). أسست هذه الحكومات انظمتها على قيّم مناهضة لمبادئ العدل والرحمة والمحبة التي نادى بها الرب. واعتبرت الناس سلعة تمتلكها فأغلقت عليهم وحرمتهم وتفننت في كبتهم.
داس الحكام العرب كرامة الإنسان وقيّدوا حريته وبهذا سلبوه من احد مكونات انسانيته التي خلقه الله عليها. حين تهيأت الظروف المواتية ثار الشعب الذي يعيش على أمل البديل الذي سيصون إنسانيته.
أما على صعيد المظاهرات الاقتصادية- فبعد ان سقطت الأنظمة الشيوعية التي اتخذت الإلحاد ديناً غير رسمي لها ومارست كبت الحريات الدينية ، جاء دور النظام الاقتصادي المناقض وهو النظام الرأسمالي المتطرف. لقد نادى الجمهوريون في أمريكا (وخاصة الرئيس ريغن في حينه) والمحافظون في بريطانيا (بالذات رئيسة الحكومة تاتشر) والليكوديون وحلفاءهم في إسرائيل (وعلى رأسهم رئيس الحكومة نتانياهو) بتيار متطرف من النظام الرأسمالي "والسوق حرة". انه نظام اقتصادي يشجع المبادرات الاقتصادية ويخفف التدخل الحكومي ولكنه في نهاية المطاف يهمل الطبقات الضعيفة. انه يقوي المقتدرين وأصحاب رؤوس الأموال. فيه يصير الغني أكثر غنىً والفقير يمسي أكثر فقراً.
يفتقر هذا النظام الاقتصادي- الاجتماعي لعامل الرحمة ومبدأ المؤازرة ودعم الفقير ويناقض الكتاب المقدس الذي نادى بالرحمة والمحبة للفقير واليتيم والأرملة.
زار الركود الاقتصادي بلاد العالم في السنين الأخيرة في دورات متعاقبة. ونبع كل مرة من ظاهرة مختلفة مثل: القيمة المصطنعة لشركات الالكترونيات في البورصة العالمية، أنظمة الهبات البنكية للإسكان في أمريكا ومؤخراً هبوط تدريج أمريكا في الائتمان المصرفي العالمي.
وقد كشفت هذه الظواهر من الركود الاقتصادي عورة هذا النظام الرأسمالي المتطرف. فأصبحت شرائح كبيرة من الطبقة الوسطى تتأفف من الهوة السحيقة بينها وبين الطبقات الغنية ووعت أنها لا تجنى من ثمار الرفاهية العامة في البلد. من هنا جاء الهيّجان والثورة العارمة في أنحاء مختلفة من العالم- ولأول مرة بهذا الحجم حتى في إسرائيل.
لقد تغافلت الحكومات عن مبادئ الرب في السياسة كما في الاقتصاد وبصفاقة اعتقدت انه بإمكانها العيش بمعزل عن أحكامه. شمخت عليه وبدل السعي "ليأتي ملكوته" حكمت بحسب أهوائها وإننا نشهد اليوم كيف يهز الرب عرشها بعنف في طريقه ليجتثها من جذورها.