أسلام على الأرض أم على الأرض السلام؟!

المسيح جاء بالسلام، سلام بين الناس، وسلام بين الإنسان والله، وسلام فى أعماق النفس من الداخل. صنع السلام وحفظ السلام بموته على الصليب
02 يناير 2021 - 08:35 بتوقيت القدس

في بدايات ومنتصف القرن الماضي، لم يكن العالم قد تنفس الصعداء مما أحاق به من خراب ودمار نتيجة ما عُرِف باسم "الحرب العالمية الأولى"، حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية بكل ما حملته من فظاعة وقوة تدميرية للعالم وللحضارة الإنسانية، وذهب العالم يلملم جراحة ويندب أشلاءه وينعي تاريخه.

في ذلك الوقت كتب د. القس إبراهيم سعيد مقالاً تحت عنوان: "أسلام على الأرض .. أم على الدنيا السلام؟" وكان تساءله هل الحرب شر أم خير؟ نار إهلاك أم امتحان للتطهير؟، لكنه في ندائه لحمامة السلام لتعود إلى الأرض ثانية، رأى في ميلاد المسيح الذي شدت في ميلاده جوقة السماء مترنمة قائلة: "«الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14)، رأى في ميلاد المسيح أنواراً تتلألأ لتمحو ظلام عالم كاد يوحل في درك الظلام ويُنتزع منه السلام.

وما أشبة الليلة بالبارحة، فها نحن في بداية القرن الواحد والعشرين، ونعيش منذ سنوات مضت –ولسنوات قادمة- حرب ضروس على ما يُسمى "الإرهاب"، وتحت هذا المُسمى الجديد تُشنّ الحروب هنا وهناك، أمريكا تُحارب في أفغانستان والعراق، وتركيا تهاجم الأكراد، وفلسطين ليست عنا بعيدة، وتتعدد بؤر الحروب في العالم، فعالمنا يئن ويتمخض، وينشد السلام ويرجوه، لذا فليس مستغرباً أن نجد يستخدم الإنسان في تحيته للآخر كلمة "سلام".

وقد جاء دعاة السلام بمؤتمرات عالمية لإرساء السلام وثقافته بدلاً من الحروب وثقافتها التدميرية والعدوانية، ونجحت بالفعل بعض المساعي، بينما أخفقت مساعٍ مؤتمرات كثيرة، ومازال الإنسان يسعى ويأمل أن يعيش في سلام.

لكن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه هو: "ما هو السلام الذي يبحث عنه الإنسان والعالم؟، وهل هناك معاني مختلفة للسلام؟ كيف يأتي السلام لعالمنا؟ وهل يمكن أن تتمتع الأرض بالسلام، أم على الأرض السلام؟

السلام اللفظ والمعنى

بحسب ما جاء في مختار الصحاح فقد عرّف العرب كلمة "سلام"، بمعنى الصلح، والبراءة من العيوب، وهو اسم من أسماء الله.

أما في اللغة العبرية فإن الكلمة العبرية "شالوم" وترجمتها "سلام"، دائماً ما كانت تحمل معنى دينياً في توافق مع بقية المعاني التي تحملها ذات الكلمة، فلفظة "سلام" كما استخدمت في العبرية تعني: التوافق مع القريب، ومع المجتمع، ومع النفس أيضاً، ولم تخلو كلمة سلام في العبرية من مدلولها السياسي كما هو معروف الآن.

وقد شاع استخدم كلمة السلام ليشمل: التحية المألوفة بين الأصدقاء والسؤال عن صحتهم، كما كانت تستخدم أيضا عند الوداع، كما شمل معنى الكلمة "سلام"، السلام من الأعداء، مما يعنى الفوز والنجاح، وكانت هذه أعظم أمنية عند الأمة، وكان السلام منحة من الله لشعبه إذا ساروا في طرقه (لاويين 26: 6). وكانت بركة هرون وبنيه للشعب هي: "يَرْفَعُ الرَّبُّ وَجْهَهُ عَليْكَ وَيَمْنَحُكَ سَلاماً" (عدد 6: 26). وإذا أرضت الرب طرق إنسان جعل أعداءه أيضاً يسالمونه (أمثال 16: 7)، بل حتى الوحوش تسالمه (أيوب 5: 23-24). وكان الموت في سلام هو أمنية الإنسان (تكوين 15: 15، 1ملوك 2: 6 الخ).

والسلام هو عطية من الله لحافظي عهده ووصاياه (لاويين 26: 3-7)، وفي إشعياء نجد أن عصر المسيح هو أزهى عصور السلام، فالمسيح هو رئيس السلام (إشعياء 9: 6).

وهكذا جاء معنى "السلام"، في العهد الجديد واللغة اليونانية، فالكلمة اليونانية "إيريني" تحمل نفس المعاني للكلمة العبرية "شالوم"، حتى أن الإنجيل هو رسالة سلام الله للإنسان، والمبشرون يُبشرون بالسلام (رومية 10: 15)، وشهوة المؤمنين هي أن يعيشوا في سلام، ويخبرنا العهد الجديد أن المسيح المقام هو مانح السلام (أفسس 2: 13-17)، كما أن السلام من ثمر الروح القدس (غلاطية 5: 22). 

وقد استخدمت كلمة "سلام"، في التحية، وقد استخدمها المسيح مع تلاميذه (متى 10: 13، يوحنا 14: 27)، وكانت التحية والطلبة الرسولية من أجل الكنيسة هى: "نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ (رومية 1: 7).

وقد لخص أحد البيانات العالمية ويُدعى "بيان يموسكرو" حول: "السلام في عقول البشر" بشكل جيد أهم مرتكزات ثقافة السلام:

- السلام هو أساساً احترام الحياة.

- السلام هو أغلى ما يوجد لدى الإنسانية.

- السلام هو أكثر من مجرد نهاية الحروب المسلحة.

- السلام هو سلوك.

-السلام هو اندماج حقيقي للكائن الإنساني في مبادئ الحرية, والعدالة, والمساواة, والتضامن بين كل البشر.

- السلام هو تزاوج منسجم بين الإنسانية والبيئة.

إذاً السلام هو الأمن والاطمئنان والخلو من الخوف والانزعاج والقلق والاضطراب، سواء لأسباب خارجية أو لأسباب نفسية. كما أنه يعنى النجاح والصحة والسعادة مادياً وجسمانياً ونفسياً.

أسلام على الأرض؟

هل يمكن أن يتحقق السلام ويحل على أرضنا، وما هي الكيفية؟

حينما وُلد المسيح هتفت جوقة الملائكة منشدة: "الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّة"، وكم كانت الأرض آنذاك –كما أنها مازالت- محتاجة  للسلام. فما هو السلام الذي تغنت به الملائكة، وهل تحقق فحلَّ السلام على الأرض؟

كانت البشرية في عداوة مع الله، تلك العداوة التي صنعها الإنسان حينما تمرد على وصايا الله وعصاه، فاستحق الموت عقاباً على عصيانه، وكنتيجة لعصيان الإنسان وفي تمرده على محبة الله فقد علاقته بالله، وبالتالي فقد سلامه مع الله، وأصبح يرى في الإنسان الآخر عدواً له فطارده وقتله ففقد سلامه مع الآخر، وقد كانت للنفس البشرية نصيباً من هذا ففقد الإنسان سلامه الداخلي، وأصبح السلام حلماً يراود الإنسان يتمنى تحقيقه، وقد شهد التاريخ عن محاولات الإنسان الحثيثة لتحقيق السلام لكنه في أغلبها كان الفشل حليفه.

لكن في ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة تحت الناموس ليصالح ويفتدي الإنسان، وقد كان هذا التجسد إعلاناً عن بدء حلول السلام على الأرض، فحين شدت الملائكة سلاماً على الأرض، إنما كانت تقصد أن ملك السلام، ومانح السلام، وإله السلام نفسه جاء متجسداً ليحلَّ على الأرض، ومن خلال رحلة خدمة المسيح وموته وقيامته صنع تبريراً للإنسان، فأصبح لكل إنسان يقبل ويؤمن بعمل المسيح سلاماً مع الله، يقول الرسول بولس: "فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رومية 5 :1)، وبهذا السلام يمكن للإنسان أن يُصحح مسارات حياته المختلفة، فيبدأ في اختبار السلام مع النفس، ثم السلام مع الآخر، ولن يُصبح الآخر عدواً بل أخاً، عندها سيتسع مفهوم السلام ليتخطى المعنى السياسي الضيق المتمثل في غياب الصراعات إلى تأصيل مجموعة من القيم والمواقف والتقاليد وأساليب الحياة التي تستند إلى الاحترام الكامل لمبادئ السيادة وحقوق الإنسان والحريات الأساسية والاعتماد على الحوار والتعاون بين الأمم والثقافات المختلفة.

وإذا تحقق السلام انطلاقاً من هذا المعنى فيمكن للأرض أن تنعم ولو قليلاً بالسلام، ولنقل سلام على الأرض، أما البديل -الذي لا نتمناه- فهو القول على الأرض السلام.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا