من سيرعى أولادك من بعدك؟!

اعلان لفت نظري ويعرض فكرة هامة قلما يفكر الناس بها.
30 أغسطس 2021 - 06:32 بتوقيت القدس
من سيرعى أولادك من بعدك؟!

علم المبيعات والتسويق هو أحد العلوم الحديثة والمعاصرة نوعا ما والتي تعمل دوما على التغيير والتطوير والابتكار بغرض كسب الزبون واجتذابه واقناعه بأهميّة تلك السلعة التي يعملون للتسويق لها ويسعون إلى بيعها للعميل بالتأثير عليه بشتّى السُبُل واقناعه بحاجته الماسّة والشديدة لها.

وكلّما كان الإعلان قويا وناجحا وجذابا ومبهرا كلما نجح في اقناع العميل ـ  بطريقة أو بأخرى ـ بأن حياته من دون شك ستتغيّر للأفضل حينما يُلبّي حاجته الماسّة لذلك المنتج أو لتلك السلعة التي يروجون لها، ويعملون على دفعه دفعا لاتّخاذ القرار والاسراع بالتحرك فعلا للاستفادة من ذلك العرض المبهر والجذّاب الذي قد لا يتكرر ثانية! وأنّ على العميل أو المُستهلك أن يسعى فورا ومن دون أي تأجيل لانتهاز الفرصة لأنّه لو فوّت العميل الفرصة الذهبيّة التي يمنحونه إياها فهو الخاسر الأكبر وسيندم كثيرا رُبّما بعد فوات الأوان!!

والحقيقة أنه كلّما ازداد سعر المنتج واهميّته وربحيّته كلما اعتمدت الشركات الكبرى الميزانيّات الضخمة من أجل الدعاية والإعلان والترويج لذلك المنتج، ويقود ذلك بالتأكيد إلى تعيين الخبراء المُتخصصين المُحنّكين من ذوي الخبرة ويدفعون لهم مبالغ طائلة بميزانيّات ربما مفتوحة، آملين أن يكون مردود ذلك بالنسبة لصانعي تلك السلعة أو منتجيها، يعوّض لهم ما ينفقونه من ميزانيات ضخمة ويحقق لهم المزيد من فائض الأرباح بعد ذلك. وعادة تقوم الدعاية على الإغراء والترغيب إلا انها تقوم احيانا على التحذير والترهيب من خطر عدم اقتناء السلعة (كمسوقي طفايات الحريق أو قطع غيار السيارات الأصلية مثلا أو الماركات ذات السمعة الرائجة، الذين يحذرون عملاءهم من الخطر الشديد الذي قد يتعرضون له ان هم تقاعسوا او اهملوا في تأمين انفسهم بسلعة اساسية او أصليّة) وبين هذا وذاك تدور عجلة الاقتصاد وفنون الاعلام والدعاية والاعلان.
ولقد استوقفني احد الاعلانات المعاصرة لإحدى شركات التأمين على الحياة وتجهيز الموتى ودفنهم إذ وضعوا صورة لإعلانهم أمام شاهد قبر لميت مدفون فيه وكتبوا تحت الإعلان هذه العبارة:
"من سيرعى أولادك من بعدك؟!"
ويا لها من عبارة صادمة بل وصاعقة ومثيرة للدهشة والاستغراب! ثم راحت الشركة بعد ذلك تسوّق لمنتجاتها المختلفة والمتنوعة من بوالص التأمين على الحياة واعداد المدفن وتجهيزه والترتيب للجنازة بعد الموت وإلى آخر مثل تلك الأمور التي انتشرت بشكل ليس بقليل في دول الغرب ولعلّها في الطريق لبلادنا العربية أو لشرقنا الأوسطي إن لم تكُن قد وصلت بالفعل. ولم يفُت الشركة أن تعلن أن لديها خططا وترتيبات متنوعة تفي بكل الاحتياجات وتناسب كل الأذواق والدخول (المُرتّبات) (!!)، وان بإمكان العميل أيضا التقسيط المناسب والمريح خلال فترة حياته والذي يضمن له راحة واطمئنانا على نفسه وعلى ذويه عندما تأتي ساعته، ومن هنا جاء الإعلان ناصحا من قبل الشركة المُعلنة التي ترسل رسالة لقارئي اعلانها وراغبيها فحواها أن:" لا تقلق أبدا عندما تأتيك تلك اللحظة لأننا سنهتم بك وبعائلتك أثناء تلك المحنة الأليمة"!!

كان هذا هو الاعلان ومع الصورة المؤثرة والعبارة الموحية والأشد تأثيرا ربّما استطاع اصحاب تلك الشركة اجتذاب الكثير من الزبائن الذين انضموا إلى عملائهم فحققوا الغرض وربحوا وتربًّحوا. وأنا لست هنا بصدد التعقيب على الإعلان أو حتى على الفكرة نفسها والغرض من وراء ذلك المنتج الجديد او الغريب الذين يروجون له، كما أنني أيضا لست بصدد الحُكم عليه وتقييمه إن كان جُل غرضه ربحيّ فقط ام هو أيضا عمل خيري خدمي وانساني او كلُّهُم معا! انّما استوقفني الإعلان وأخذني لأفكر كثيرا في ذلك السؤال الهام:" من سيرعى أولادي من بعدي؟!" وأعود فأقول، يا له من سؤال هام وموفّق جدّا.
لكنني بعد فترة لم تطُل من التفكير ابتسمت أخيرا وأنا أقول لنفسي في إجابة قاطعة وجازمة: "الله الذي رعاني هو الذي سيرعى أولادي من بعدي" وهذا هو من دون شك القول الفصل والإجابة الشافية. نعم وبكل تأكيد. وأخذت استرجع سني عمري منذ صغري ومنذ طفولتي، وأخذتني الذكريات بعيدا....

من هو الذي رعاني حينما كدت اغرق في البحر وأنا اسبح واصرخ واحاول أن أنجو من غرق وموت مُحقّق بلا فائدة ثم أخيرا سلّمت امري لله واستسلمت أنا وأخي وزوجته وجميعنا كنا نموت وسلمنا امرنا لله واستسلمنا فإذا بالبحر ينشق عن ثلاثة أبطال يأتون ليخرجوننا بمعجزة! ومن هو الذي رعاني حينما انزلقت سيارتي وانا اقودها بفعل الأمطار الغزيرة فدارت دورتين كاملتين بأقصى سرعة من دون أي سيطرة مني عليها اذ كانت المفاجأة قد شلت حركتي وسلمت امري لله واستسلمت لموت محقق ثم إذا بالسيّارة قد غيّرت مسارها مُتوجّهة باندفاع وبأقصى سرعة نحو الاصطدام بسور خرسانيّ جانبي على الطريق فأغمضت عيني واذا بها تتوقّف علي بُعد ـ أقول مللي مترات وليس سنتيمترات ـ لأخرج منها سليما والذهول والصدمة يعتريانني والدمع تملأ عيني من فرط احساسي بالمديونية للرب وعدم تصديقي للنجاة! واخذت اسرح وأتأمّل في مواقف وذكريات كثيرة عميقة وأليمة لكنها بالوقت ذاته مباركة ومشجعة. 

من هو الذي سترني طوال عُمري؟ من هو الذي أعانني كل الطريق؟ من هو الذي وقف معي في شدّتي وفي مرضي وفي حزني وفي كآبتي وعند قيام الناس عليّ ووقت غدرهم بيّ وتركهم لي وتخلّيهم عني وقت حاجتي وشدّتي؟ من هو الذي أعانني عند مروري بضائقة ماليّة؟ ومن هو الذي علمني وشجعني وأقامني ورفعني وباركني ووقف جواري واحسن إليّ وصبر عليّ واحتملني طوال الطريق؟ انه الله وحده ولا سواه! هل تراه عمل ذلك لبرّ او استحقاق او كفاءة أو جدارة فيّ؟! لا ابدا على الإطلاق! انه عمل ذلك معي فقط بسبب وبدافع من محبته لا أكثر ولا اقل، من دون ان يلتفت لاستحقاق فيّ او جدارة عندي وإلا كان قد تحوّل عني! انه عمل ذلك معي بمنطق الحب والرحمة لا بدافع العدل والاستحقاق. انه عمل ومازال يعمل ذلك معي ومع أولادي واسرتي والمُحيطين بي ومع كل البشر أجمعين. وهو لا ينتظر ثمنا أو مقابلا نظير ما يفعله، واي ثمن او مقابل يمكن ان يدفع او يرد به جميلا مثل ذلك؟
نعم أنا قد وجدت الإجابة الحاسمة الدامغة الشافية. نعم سيأتي يوم لا بد فيه أن تنتهي حياتي هنا على الأرض وأمضي إلى البيت السماوي الذي يعده الله للذين يُحبّونه، وهذا أيضا ليس عن استحقاق بل عن نعمة. لكن حين يأتي هذا اليوم المحتوم فإنّ الله الذي رعاني ورعي آبائي وأجدادي من قبلي هو الذي سيرعى أولادي من بعدي وأولادهم من بعدهم وحتى نهاية الأيّام. بل احقاقا للحق أقول إنّه منذ اليوم وأمس وأول من أمس وهو مشغول بي وبأسرتي وبأولادي أكثر مني، وهو الذي يرعاني ويرعاهم الآن وانا حي أُرزق، وهو الذي سيستمر يرعاهم من بعدي. 

فلماذا أعول الهم؟! لقد أوصانا الرب يسوع في موعظته الرائعة الخالدة على الجبل وهي درة الدرر وأنفس واثمن الوصايا والمواعظ، لقد أوصانا الرب في هذه الموعظة ألا نقلق وألا نهتم. قال يسوع:" ..... لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ 
وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ 
وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللَّهُ هَكَذَا أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ 
فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. 
لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي اليَوْمَ شَرُّهُ".

خُلاصة القول إذا، على الإنسان أن يسعى في طريق البحث الجاد والمُخلص عن البر والصلاح والتقوى ومعرفة الرب وهذه هي الأمور الحقيقية التي يلزم للانسان ان يبحث عنها لأنها هي مفتاح وصوله للبيت الأبدي الذي هو النهاية والغاية والمُستقر. أمّا ما عدا هذا من الأمور المادّية والزمنية، الحاضرة والمُستقبليّة، وكذلك أيضا من جهة الأسرة والأولاد، فعلى الانسان ألّا يقلق من جهتها أبدا، فالأشبال، أولاد الأسود، احتاجت وجاعت وأمّا طالبوا الرب فلم يعوزهم شيء من الخير. فليعطنا الرب أن نتشجّع ونتمسّك به إلى المُنتهى، وأن نحيا ونسلك وفق هذا الكلام. آمين.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا