نيودلهي – في مشهد غير مألوف أمام البرلمان الهندي، احتشد آلاف المسيحيّين من مختلف الطوائف والولايات في ساحة «جنتر منتر» بوسط العاصمة نيودلهي في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، رافعين الصلوات والشعارات معًا، في تظاهرةٍ وُصفت بأنّها من أكبر التحرّكات المسيحية المنظَّمة في البلاد خلال السنوات الأخيرة، احتجاجًا على تصاعد العنف والتمييز ضدّ المؤمنين بالمسيح في الهند.
تقدِّر جهات كنسية وحقوقية عدد المشاركين بما بين 1,500 و3,500 شخص جاؤوا من أكثر من أربع عشرة ولاية، ومن مئات الرعايا والكنائس والمؤسسات، تحت شعار جامع: «نحو هند مكتفية، متقدّمة وموحّدة». وقد تعمّد المنظِّمون اختيار مكان قريب من البرلمان، كي تصل الرسالة مباشرة إلى النواب وصنّاع القرار، فيما كانت الجلسات الشتوية للبرلمان منعقدة على بُعد مسافة قصيرة من مكان الاعتصام.
المسيرة اتخذت طابعًا روحيًا–حقوقيًا في آنٍ واحد؛ فقد حمل المشاركون لافتات كُتب عليها: «أوقفوا الفظائع ضد المسيحيين»، «دعونا نعيش ونخدم وطننا»، «احموا المسيحيين القبليين والداليت»، وفي الوقت نفسه تعالت الترانيم في الهواء المفتوح، وتشكّلت حلقات صلاة جماعية من رجال دين وراهبات وعلمانيين، في مشهد يختلط فيه الوجع بالرجاء، والخوف بإيمانٍ يصرّ على البقاء.
نظّم هذه الفعالية ائتلاف واسع من ثماني عشرة هيئة مسيحية تحت مظلّة «منتدى المسيحيين الموحَّد» (UCF) وشركائه، في إطار ما سُمّي بـ«المؤتمر المسيحي الوطني». وفي ختام اليوم، صدر عن المؤتمر نصّ مطوّل حمل اسم «إعلان دلهي 2025»، تم الاتفاق على توجيهه إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الداخلية ورئيس المحكمة العليا ووزير شؤون الأقليات، في محاولة لوضع ملف العنف ضد المسيحيين على طاولة أعلى السلطات في البلاد.
البيانات التي عُرضت خلال المؤتمر رسمت صورة مقلقة لمسارٍ تصاعديٍّ مستمر منذ عقدٍ كامل تقريبًا. فبحسب أرقام منتدى المسيحيين الموحَّد، ارتفع عدد الحوادث الموثَّقة ضد المسيحيين في الهند من 139 حادثة عام 2014 إلى 834 حادثة عام 2024، أي زيادة تقارب 500٪ خلال عشر سنوات. وحده عام 2024 شهد 834 اعتداءً، بعد 734 في 2023 و601 في 2022، ما يوازي تقريبًا حادثين في اليوم الواحد حين يُنظر إلى المتوسط السنوي. أما في 2025، فيشير المنظمون إلى توثيق أكثر من خمسمائة حادثة بحلول أواخر أيلول/سبتمبر، في حين لم تُسجَّل رسميًا إلا عشرات قليلة من الشكاوى لدى الشرطة، وهو ما يسلّط الضوء على فجوة كبيرة بين الواقع الميداني والاعتراف المؤسسي بما يجري.
ولم يقتصر القلق على الأرقام الإجمالية، بل شمل أيضًا توزيعها الجغرافي. فالاعتداءات تتركّز بشكل خاص في عددٍ محدّد من الولايات، تتصدّرها أوتار براديش بأكثر من ألف وثلاثمائة حادثة موثّقة خلال السنوات الأخيرة، تليها تشهاتيسغاره وماجهيا براديش وكارناتاكا وتاميل نادو. وتشير الهيئات المسيحية إلى أنّ أكثر من ثلاثة أرباع الاعتداءات في العقد الأخير حصلت في هذه الولايات الخمس، ما يجعلها «نقاطًا ساخنة» يتعرّض فيها المؤمنون لضغطٍ وضيق مستمرَّين، خصوصًا في القرى والمناطق القبلية النائية حيث تقلّ التغطية الإعلامية وقدرات المتابعة القضائية.
من بين الفئات الأكثر هشاشة في هذا السياق، برز وضع «الداليت» (الطبقات المنبوذة سابقًا) والمسيحيين من الجماعات القبلية. فقد عرض المتحدثون حالاتٍ متكررة لحرمان مسيحيين من حقّهم في دفن موتاهم في المقابر العامة، أو للضغط على العائلات من أجل نبش القبور ونقل رفات أحبّتهم من أراضٍ تُعتبر «ملكًا جماعيًا» للقرية. هذه الحالات لا تُقرأ فقط كاعتداءات اجتماعية أو عرفية، بل كجرحٍ مباشر لكرامة الموتى وللاهوت الرجاء المسيحي في القيامة والحياة الأبدية. كما تحدّث المشاركون عن نساء مسيحيات تعرّضن للاعتداء والإذلال، وعن قرى بكاملها وُضعت تحت تهديد المقاطعة الاقتصادية إن لم يتخلَّ أهلها عن إيمانهم.
إلى جانب العنف الجسدي والاجتماعي، وجّه المؤتمر سهام النقد إلى الإطار القانوني الذي يسمح بتحويل حياة الأقليات الدينية إلى مساحة من الخوف الدائم. فقد ركّز المتحدثون خصوصًا على ما يسمّى بقوانين «مكافحة التحوّل الديني» المعمول بها في عدد من الولايات الهندية. هذه القوانين، وإن كانت تُقدَّم رسميًا على أنها حماية من «التحوّل القسري أو عبر الإغراء»، إلا أنّ الهيئات الكنسية والحقوقية ترى أنّها تُستخدم عمليًا كذريعة لتوجيه اتهامات جاهزة ضد القساوسة والمبشرين والجماعات الصغيرة التي تمارس الصلاة والتعليم الكتابي في البيوت أو الكنائس البيتية. ومن هنا كان أحد المطالب المركزية للمؤتمر هو إلغاء هذه القوانين أو تعديلها بعمق، وضمان عدم استخدامها لتجريم الحياة الرعوية العادية أو التنشئة المسيحية المعتادة.
القضية الأخرى التي أعاد «إعلان دلهي 2025» إحياءها بقوة هي ما يُعرف بـ«الأمر الرئاسي لعام 1950»، والذي يحصر الاستفادة من امتيازات فئة «الطبقات المُقرّة» (Scheduled Castes) بالمنتمين إلى الديانات ذات الخلفية الهندوسية والبوذية والسيخية، مستثنيًا الداليت من المسيحيين والمسلمين. ووفقًا للتقديرات التي قدّمها المشاركون، يحرم هذا الأمر ما بين ثمانية وعشرة ملايين داليت مسيحي من الحصول على الفرص التعليمية والوظيفية والدعم الاجتماعي الذي يحصل عليه نظراؤهم من أتباع ديانات أخرى، لمجرّد اختلافهم دينيًا. لذلك طالب المؤتمر بإلغاء الربط بين الدين وبين صفة «الطبقة المُقرّة»، بما يعيد تعريف العدالة الاجتماعية على أساس الكرامة الإنسانية لا الانتماء الديني.
«إعلان دلهي 2025» لم يكتفِ بتشخيص المشكلات، بل قدّم قائمة مطالب عملية تشكّل برنامج عمل للكنائس والمؤمنين في المرحلة المقبلة. من هذه المطالب: إلزام الشرطة بتسجيل كل الشكاوى المتعلقة بالعنف الطائفي والاعتداءات على الأقليات، وإنشاء محاكم سريعة للنظر في هذه القضايا، وتأسيس لجان رسمية لحماية الأقليات الدينية على مستوى الولايات والدوائر المحلية، تكون ملزمة بإصدار تقارير دورية عمّا يجري من انتهاكات وإجراءات. كما دعت الوثيقة إلى مراجعة قانون تمويل الجمعيات (FCRA)، بعدما أدّى تطبيقه المتشدّد في السنوات الأخيرة إلى تقييد عمل مؤسسات مسيحية تعليمية وصحية وخيرية كثيرة، تخدم ملايين المواطنين بغضّ النظر عن انتمائهم الديني.
على هامش المؤتمر، نقل كثير من المشاركين إلى وسائل الإعلام المسيحية مشاعر متناقضة تجمع بين الرجاء والخوف. الرجاء منبعُه رؤية هذا الحشد المتنوّع من الكنائس والطوائف يقف معًا، يصلي معًا، ويتكلّم بصوت واحد دفاعًا عن كرامة الإنسان وحرية الضمير. والخوف مصدره إدراك قسوة الواقع اليومي الذي يعود إليه هؤلاء المشاركون غداة المؤتمر، في قرى ومدن ما زالت فيها لغة التهديد والعنف أقوى من صوت القانون.
مع ذلك، يرى عدد من القادة الكنسيين أنّ ما حدث في جنتر منتر يمكن أن يكون نقطة تحوّل، ليس فقط بسبب حجم المشاركة، بل لأنّه أسَّس لخطاب مسيحيّ علنيّ يجمع بين اللغة اللاهوتية–الروحية ولغة الحقوق والدستور. فالمؤتمر لم يقدّم نفسه بوصفه حدثًا احتجاجيًا عابرًا، بل كبداية لمسار مناصرة طويل الأمد، يُفترض أن يتابعه المؤمنون على مستوى الرعايا والأبرشيات، من خلال التوثيق الدقيق للحوادث، ومرافقة الضحايا، وبناء تحالفات مع شركاء من ديانات أخرى يرفضون العنف الطائفي ويدافعون عن دولة قانون تحمي الجميع.
بالنسبة للمواقع المسيحية التي تتابع عن قرب أوضاع الكنيسة في الهند، يحمل هذا الحدث رسالة مزدوجة. من جهة، هو ناقوس خطر جديد يذكّر بأنّ جسد المسيح في هذه البلاد ما زال يتألّم، وأن أعضاء كثيرة منه تُجرَّب بالنار، سواء عبر العنف المباشر أو الإقصاء الصامت أو التهميش البطيء. ومن جهة أخرى، هو علامة رجاء بأنّ هذا الجسد الحيّ لم يفقد بعد القدرة على أن يرفع صوته، وأن يطالب سلمياً بالعدالة، وأن يواصل شهادة الإنجيل في خدمة الفقراء والمهمّشين، حتى في وسط ليلٍ ثقيل.
هكذا يغادر المسيحيون الذين شاركوا في «المؤتمر المسيحي الوطني» ساحة جنتر منتر، لكن القضايا التي حملوها إلي العاصمة لن تغادر بسرعة. فملف العنف ضد المسيحيين في الهند يبدو اليوم أكثر وضوحًا وتنظيماً من أي وقت مضى، والكنيسة هناك مدعوة إلى الاستمرار في الجمع بين الصلاة والالتزام، بين إعلان الإيمان والعمل من أجل كرامة كل إنسان خُلق على صورة الله ومثاله.
