قلت في نفسي؛ لا يحقّ لي الكتابة عن الأراضي المقدّسة لأنّ أهلها أدرى بالمقدَّسات، كما (أهل مكة أدرى بشِعابها) وأهل نينوى أدرى بآثارها وأهل البصرة أدرى بنخيلها. لكنّ الذي دفعني إلى الكتابة هو أنّ تلك المقدّسات هي من مقدّساتي أيضًا وإن كنت بعيدًا عنها بالجسد. وقد رأيت من المقدّسات ما انتُهِك وممّا على وشك أن يُنتَهَك. وسألت نفسي: لماذا يحسب المسلمون مقدّساتي رخيصة، كما مقدّسات غيري وسائر غير المسلمين، بينما يحسبون مقدّساتهم ثمينة؟ ولماذا ينتهك المسلمون حرمات غيرهم في وقت يستكثرون على الغير انتهاك حرمة واحدة من حرماتهم ويستنكرون؟ بل يقيمون الدنيا ويقعدونها إذا ما مسّ أحد واحدة منها. وتاليًا؛ لماذا يظنّ المسلم أنّ قامته أعلى من قامة غيره ولا سيّما المسيحي واليهودي؟ فما يزال المسلمون ولا سيّما العرب يملأون الدنيا صراخًا وضجيجًا، احتجاجًا على قيام الدولة العِبرية "إسرائيل" في وقت غضّوا بالنظر عن الدول التي احتلّها أسلافهم منذ صدر الإسلام والناطقة اليوم باللغة العربيّة (1) وما كانت قبل احتلالاتهم، التي يسمّونها فتوحات، ناطقة بالعربيّة. فالمسلمون احتلّوا بلداننا- أي التي للسريان والكلدان والآشوريين والأقباط والأرمن…- وبلدان غيرنا بدون وجه حقّ، إنّما بحسب توجيه التراث الإسلامي وتحريضه، بل يعتبرون أنّ الحقّ ما كُتِب في التراث المذكور بما في تفسيراته من وجوه (2) ومطّاطيّة.
لذا وبالمقابل المنطقي؛ من حقّ كلّ غازٍ أن يحتلّ أيّة دولة إسلاميّة باٌسم الإله الذي يعبد، حتى إذا كان الإله وثنيًّا ومطّاطيًّا. وبهذا المنطق؛ لا يحقّ اليوم للمسلم-ة الإعتراض على دولة إسرائيل القائمة سنة 1948 ولا على الاستعمار الغربي السابق والذي سبقه الاستعمار الاسلامي بحوالي تسعة قرون. بَيدَ أنّ المستعمر الغربي قد خرج أمّا الاستعمار الاسلامي فهو احتلال باقٍ إلى أجل غير مسمّى، بل ماضٍ في التوسّع على حساب ما تبقّى من أرض للمسيحيّين وسائر الأقليّات. هذا لأنّ المنطق الذي يحاول المسلمون فرضه على غيرهم يعطي الحقّ لغيرهم أيضًا أن يفرضه عليهم، سواء أشاؤوا أم أبوا.
وثيقتان خطيرتان في إسرائيل
أمامي حاليًّا وثيقتان؛ الأولى: تحريض من الشيخ عصام عميرة أحد شيوخ الأقصى ومعلميه بأنّ على المسلمين قتال غير المسلمين وإن كانوا مسالمين، وإنْ لم يعتدوا على أحد. فإمّا الإسلام او الجزية أو القتال. وهذا الشيخ لم يأتِ بتحريضه من فراغ، إنما هذا بالضبط ما فرضه محمد على نصارى نجران (أوّل مَن دفعوا الجزية) وما نصّت عليه سورة التوبة 29 بوضوح. فشكرًا لهذا الشيخ على شهادته على إحدى حقائق الإسلام وإن أصبحت معروفة.
والثانية: بيان منسوب لداعش وفيه: (إلى أهلنا في القدس الشريف، تهنِّئكم داعش بحلول شهر رمضان المبارك الذي سيكون بإذن الله وَبَالًا على الصَّهاينة والحُكّام العرب الخونة… نقول للنصارى الكفرة إنّ عليكم الرحيل فورًا وإلّا فستُذبَحون مع اشراقة عيد الفطر كالخراف) ويا لها مِن إشراقة فكيف ستبدو العَتَمة؟ لكنّي قلت شكرًا لداعش أيضًا إذ مَثَّلت الإسلام أصحّ تمثيل وأوصلت الخلافة الإسلامية إلى أعلى مرتبة من جنون سفك الدِّماء حتى الآن، سواء بدعم من أميركا أو من حلفائها في المنطقة ولا سيّما قطر وتركيا. فمثالًا: نفذت داعش، خلال سنة من "فتحها" سوريا، حوالي ثلاثة آلاف عمليّة إعدام فرديّة وجماعيّة، ذبحًا وشنقًا وصَلبًا ورجمًا ورميًا بالرصاص ورميًا من الشّواهق، بتُهَم عدّة مختلفة ومعروفة.
إسرائيل في الميزان
عَلِمتُ من مصادر فلسطينية مراقِبة ومحايِدة، ما لم أعلم عن إسرائيل قبل تهجيري من بلدي (العراق) لكنّ والدي- رحمه الله- كان يثق بإذاعتين ناطقتين بالعربيّة: لندن وإسرائيل. فمن المعلومات المتيسّرة اليوم على الانترنت، مثالًا: ويكيبيديا، أنّ نسبة العرب، من مسلمين ودروز ومن مسيحيّين، ممّن يحملون الجنسية الإسرائيليّة بلغت 20.73% بحسب إحصائيات أبريل 2015 شكّل المسلمون منها 17% والمسيحيون 1.9% والدروز 1.8% مع الأخذ بنظر الاعتبار عرب الـ 1967 من حملة الهويّة الإسرائيليّة. وأنّ للعربي حامل الجنسية حقّ التصويت في الانتخابات الاسرائيلية، لذا فمن المفترض أن يتمتّع العربي بسائر حقوق المواطنة أسوة بالإسرائيلي، بدون استثناء ولا تمييز. وأنّ شبّان دروز إسرائيل مجنّدون في ألوية جيش الدفاع الإسرائيلي تجنيدًا إجباريًّا بصفتهم مواطنين إسرائيليّين. والدروز مسلمون أصلًا سواء أشاءَ المسلمون "الرسميّون" أم أبوا. ويوجد تفاوت بحقوق الأقلّيّات بين أيّة دولة إسلامية وبين الداخل الإسرائيلي. وأنّ سمعة إسرائيل في الخارج أفضل ممّا في الداخل. فإذا قارَنَتْ إسرائيل نفسها مع الدول الديكتاتورية فهي على حق في تقصير حِبال العدالة والمساواة والحريّات، تحت ذرائع الحفاظ على أمنها وسيادتها ومصيرها من رياح الداخل والخارج. لكنّها إذا قارنت نفسها مع دول ديمقراطية كالتي في الغرب فإنّ منحنى الديمقراطية لدى إسرائيل هابط. فمن الأمثلة على الهبوط: لمّ شمل العائلة وحريّة الإقامة والتنقّل. هذا بالإضافة إلى خرق من هنا وآخر من هناك، ممّا يقوم به يهود متشدِّدون ويهود يسمّيهم الإعلام العربي مستوطنين. ولديّ اعتراض هنا على تسميتهم "مستوطنين" كأنّ المسلمين وعرب الصحراء لم يستوطنوا بقاعًا شتّى من العالم عبر التاريخ القديم منه والحديث. إلّا أنّ الكنائس في إسرائيل تُقرع أجراسُها والمآذن تُزعِج حتّى اليهود بلا حرج. وطلبات لجوء الأجانب إلى إسرائيل من جنسيّات مختلفة ومن ديانات مختلفة على قدم وساق. وبالمناسبة؛ هل يعلم العالم من خارج إسرائيل أنّ عربيّ الـ 67 قد يتنازل عمّا يملك في مقابل احتفاظه بالجنسيّة الإسرائيليّة أو الهويّة؟ هذا ما نقل لي أحد الأصدقاء قادمًا من القدس. لكنّ صديقًا مقيمًا في إسرائيل كتب لي: (إنّ رغبة الفلسطينيّين في الحفاظ على هذه الجنسية أو بطاقة الهوية، ليست نابعةً من محبّتهم دولة إسرائيل أو لإيمانهم بأنها ديمقراطية، إنّما السبب هو أنّ فقدان أيّ منها يعني فقدانهم حقّ العيش أينما يريدون في وطنهم. كما أنّ المحبة تعني لبعضهم خضوعًا ما للاحتلال الإسرائيلي) وفي المقابل- نقلًا عن صديق ثالث: (هناك مَن تمنّى الحصول على الهويّة الإسرائيليّة فحصل له ما أراد، لكنّه استمر في إظهار مشاعر العداء ضدّ سياسة إسرائيل) والمصادر الثلاثة موثوق بها من جهتي. ومعلوم لي أنّ إسرائيل تنشد الأمان حاضرًا ومستقبلًا. وأنّ لدى العرب حقوقًا اغتصبتها إسرائيل بدون شك. لكنّ النزاع معقَّد اجتماعيًّا وسياسيًّا، تتبعه حسابات داخليّة بين طرفي النزاع وتدخّلات دوليّة بعضها إيجابيّ والآخر سلبيّ. فالمشاكل كثيرة، لكنّ إرادة العقول السّاعية إلى صنع السَّلام ستنتصر بعون الله. وأخيرًا؛ أعترف بقلّة معلوماتي، لكنّ المزيد في ويكيبيديا: إسرائيل، عرب، يهود عرب.
رسالتي إلى عرب الدولة العِبريّة
أحبّائي عرب إسرائيل- مسلمين ومسيحيّين- ماذا يمنعكم من الانضواء جميعًا تحت راية الدولة العبريّة؟ ألا يكفي اعتراف كلّ من مصر والأردن بدولة إسرائيل، بالإضافة إلى اعترافات أخرى ضمنيّة أو غير معلن عنها؟ ألا يكفي حصولكم على جنسيّة إسرائيل أو الهويّة الإسرائيليّة وعلى بعض حقوق المواطنة بالمقارنة مع حقوق الأقليات في الدول العربية والإسلامية؟ ألا يكفي الأمان والاستقرار نسبيًّا وتوفّر فرص العمل؟ ألا يكفي وجود اتفاق سلام بين إسرائيل وبين منظمة فتح برعاية أميركا؟ وكم كان جميلًا ما رأيت، خلال الأيّام القليلة الماضية: هدنة طويلة الأمد بين إسرائيل وبين حركة حماس، على رغم معارضة داعش الحركة وتوّعّدها والتهديد بإسقاطها في قطاع غزة (وكالة معا الاخبارية في 01/07/2015) بجعل القطاع واحدًا من مناطق نفوذ داعش في الشرق الأوسط، متَّهِمة حركة حماس حاكمة القطاع بأنها (غير جادّة بما يكفي بشأن تطبيق الشريعة) والأجمل أن يلتئم شمل الفلسطينيّين معًا، مسلمين ومسيحيّين، على مصالحة وطنية شاملة وعلى العيش جنبًا إلى جنب مع الإخوة اليهود. وبالمناسبة؛ حبّذا لو رحّب المسلمون بالخطاب الطّيّب والمحترم الذي ألقاه علانيّة رئيس الوزراء الإسرائيلي في مناسبة حلول رمضان 2015 والخطاب متوفّر على يوتيوب، عِوَضَ السبّ والاستنكار وتحريف لغة الخطاب، ما يوسّع فجوة الخلاف بين الجانبين العربي والإسرائيلي وما يعكس صورة عن المسلمين لا يُحسَدون عليها في الشرق والغرب. وحبّذا لو ربّى المسلمون أطفالهم على محبّة اليهود عوض الكراهية واللعن، إذ شاهدت مقاطع يوتيوب مخزية في حقّ عوائل مسلمة لتلقين الأبناء ثقافة الكراهية، ما تنتج عنها خطورة في مستقبل العلاقة بين المسلمين وبين اليهود، وقد يتعاطف العالم مع قضية اليهود أكثر من تعاطفه مع قضية العرب ولا سيّما المسلمين.
ولديّ سؤال في النهاية، موجّه إلى أهل الإنصاف والحياد: ماذا وفَّرَتِ الدول الإسلامية لمواطنيها وللأقلّيّات مثلما وفَّرت الدولة العِبريّة؟
داعش والمسلمون
أمّا المتعاطفون مع داعش من المسلمين الفلسطينيّين والمتحمّسون للإنضمام إليها فإنهم يريدون فلسطين إسلامية والأرض كلّها إسلامية (ما شاء الله على الأوهام) ضاربين بالوطنية والقوميّة عرض الحائط. وأمامهم تسجيلات أفعال داعش بالصورة والصوت، أمامهم وأمام جميع العرب مسيحيّين ومسلمين. فالذي يتمنّى هؤلاء المتعاطفون والمتحمّسون أن تحلّ في فلسطين صورة طبق الأصل ممّا اقترفت أيادي داعش من جرائم في العراق والشام. هذا الذي فعلت داعش هو ما تنوي فعله في فلسطين وفي كل مكان تعثر لها فيه على موطئ قدم.
ولديّ في موقف هؤلاء المتعاطفين والمتحمّسين ثلاث مسائل؛ الأولى موجّهة إلى خصوم داعش: لا ينبغي إلقاء اللوم على هؤلاء المتديّنين إسلاميًّا ولا الاعتراض على داعش، لأنّ داعش لم تفعلْ فِعلًا واحِدًا غير مستند على قرآن أو حديث أو سُنّة أو فتوى. إنّما الواجب، بصراحة ووضوح، هو إلقاء اللوم والاعتراض على القرآن والحديث والسُنّة والفتاوى. فلا تكيلوا بمكيالَين.
أمّا الثانية فموجّهة إلى هؤلاء المتعاطفين والمتحمّسين: لا يظنّنّ أحدٌ مِنكم أنَّ أهالي الرَّقّة ودير الزور ونينوى والرمادي والفلوجة وغيرها يعيشون بخير وأمان ورخاء تحت خيمة داعش المظلمة. إذ خرجت شريعة محمد وخلفائه، من الأمويّين والعبّاسيّين وغيرهم لتطفو على السطح بأيادي داعش وأخواتها بعد سُبات مؤقَّت ومدروس؛ منها المذكور أعلى، ومنها العبث بأجساد الناس وأرواحهم على أنواعه، كتقطيع الأطراف والحرق والتفجير والإغراق. فما حصل لكلّ مغدور من آلاف المغدورين قد يحصل لكم في أيّ وقت، إذ لا أمان في الإسلام. لعلّ خير شهادة؛ مقولة مسلم بن عقيل، ابن عمّ الحسين بن علي بن أبي طالب: (لا أمان لكم يا أهل الكوفة) فالظلم في الإسلام على قدم وساق، كما النفاق والغدر والاغتيال... إلخ.
وأمّا الثالثة فهي موجَّهة للمسلمين جميعًا؛ إنّ الجيِّد الذي أتى به المدعو محمَّدًا ليس جديدًا كما أنّ جديده، في رأيي ولدى كثيرين، ليس جيِّدًا! فالتوحيد- مثالًا- مدوَّنٌ في التوراة وسائر أسفار الأنبياء وفي الإنجيل بأزيد من 300 آية. فمثالًا ما في التوراة: {اِسْمَعْ يا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنا رَبٌّ وَاحِد}+ التثنية 6: 4 أمّا الله فيُمكن أن يُعبَد بأيّة طريقة وبأيّة صلاة وبأيّ اتّجاه! إنّما المهمّ قلب المؤمن-ة وليس شكله ولا مظهره ولا عِرقه ولا نَسَبه... وإنّما الله الموجود في كل مكان، يرى كلّ شيء ويسمع كلّ صوت عالِمًا بالنِّيّات وبالخفايا. عِلمًا أنّ "الله" لفظة آراميّة الأصل معناها: العالي.
تمرُّد داعش على داعش
توجد معلومات في المقابل، عن تمرّدات متفرّقة بين صفوف الدواعش ومنهم قياديّون، إذ صُدِم عدد من الملتحِقين بهذا التنظيم بحقيقة الإسلام، وهو ما تبنّى داعش تحت راية الخلافة، وصُدِمَ عدد من الملتحِقات أيضًا. وتوجد خلافات تنظيميّة بين قادة داعش على الإدارة وطُرُقها، وأخرى عِرقيّة. لكنْ أسفر كشف حلقات التمرّد عن إعدامات فظيعة نفّذتها داعش بالمتمرِّدين، بوسائل أبشع ممّا يخطر في البال ولن يخطر في خيال، تحت ذريعة تطبيق حدّ الرّدّة وغيرها. وهذه هي مافيا الإسلام، إن جاز التعبير، فلم تأتِ داعش بجديد سوى التفنُّن في طرق القتل مع تصوير مشاهد الإعدام بتقنية عالية من تقنيّات "الكُفّار" وهذا من ضروب النفاق الذي سبق لي أن أشرت إليه في سلسلة مقالات تحت عنوان "لعلّ المنافقين يخجلون" فمَن قال (إن الإسلام بريء ممّا فعلت داعش) لم يعرفِ الإسلامَ على حقيقته المدوَّنة في كتب التراث الإسلامي، سواء المُعلنُ عنها والمعتَّم عليها. وقد أصبحت غالبيّتها معلومة عبر الفضائيّات والانترنت.
1 لقد عشت شخصيًّا في بيئة إسلامية صرفة فكان لزامًا عليّ تعلّم اللغة العربيّة، عِلمًا أنّ دولتي آنذاك لم تعترف بلغتي الأمّ (الآراميّة) لغة رسمية. أمّا العربية في إسرائيل فإنها رسمية، إلى جانب العِبريّة، لأن خُمس الدولة على الأقلّ يتكلم بالعربيّة، وإن رُصِدتْ محاولات إسرائيلية لتهميشها والتقليل من شأنها. ومثل هذه المحاولات تقلِّل من رصيد ديمقراطية إسرائيل المشهود لها في أميركا وسائر دول الغرب.
2 حديث 2839 أخرج ابن سعد من طريق عكرمة عن ابن عباس أنّ علي بن أبي طالب أرسله إلى الخوارج فقال اذهب إليهم فخاصمهم ولا تحاجّهم بالقرآن فإنه ذو وجوه ولكن خاصمهم بالسُّنَّة.
¤ ¤ ¤