إن المجتمع العربي هو مجتمع يُحب الألقاب، وتستخدم الألقاب عادةً لتمييز الناس عن بعضهم البعض وإبراز احترام خاص للبعض منهم. لذلك يستخدم أهل العالم الألقاب المختلفة لمقامات مختلفة، مثل إبراز المقامات السياسية بالألقاب: جَناب الضابط؛ سيادة العقيد؛ معالي الوزير؛ سمو الأمير؛ فخامة الرئيس؛ جلالة الملك...إلخ. أيضًا لم تسلم الكنيسة من استخدام الألقاب كطريقة للتعبير عن احترام قادتها، مثل: قدس الأب؛ نيافة المطران؛ غبطة البطريرك؛ قداسة البابا؛ سماحة القس...إلخ.
وسؤالي هو: ما هو الذي يميِّزنا كمؤمنين، ويعطينا الاحترام والكرامة؟
بالرغم من أنه يوجد مُيول للإنسان لتمييز مقامه عن غيره، عند جميع المجتمعات البشرية بطريقة أو بأخرى، إلا أنه يبدو أن العرب هم من أكثر الشعوب التي تحب الألقاب. فمثلا في المجتمع الأمريكي لا يوجد ألقاب تبجيلية خاصة بمقامات السياسيين، فيسمى رئيس الولايات المتحدة مثلًا: "السيد الرئيس" (Mr. President) (بدلاً من "فخامة الرئيس")؛ وتُطلق نفس الكلمة، "السيد"، أيضًا لأي إنسان في الشارع أو في الدولة تود أن تقدم له الاحترام.
فما هو رأي الكتاب المقدس في قضية مقام الإنسان واحترامه؟ وما الذي يميزه؟
عندما طرح الوحي من خلال بولس الرسول هذا الموضوع، وذلك في ظل كنيسة كورنثوس التي كان فيها تحزُّب، وكان بعض المؤمنين كما يبدو يتحاورون على من هو أعظم بينهم من خدام الرب: بولس؟ أم أبُلُّوس؟ أم بطرس؟ (١ كورنثوس ١: ١٢). عندما تعامل الوحي مع هذا الموضوع، قدم لنا مبادئ هامة تساعدنا على فهم الكيفية التي يرى فيها الله كرامة المؤمنين، والتي تساعدنا على تعديل رؤيتنا لبعضنا البعض لما يميِّزنا:
" ٦ فَهَذَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ حَوَّلْتُهُ تَشْبِيهاً إِلَى نَفْسِي وَإِلَى أَبُلُّوسَ مِنْ أَجْلِكُمْ لِكَيْ تَتَعَلَّمُوا فِينَا أَنْ لاَ تَفْتَكِرُوا فَوْقَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ كَيْ لاَ يَنْتَفِخَ أَحَدٌ لأَجْلِ الْوَاحِدِ عَلَى الآخَرِ. 7 لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟" ١ كورنثوس ٤.
فالوحي هنا يدعو المؤمنين بأن لا يفتخروا بمقامات ومراكز ومواهب بعضهم البعض (العدد ٦)؛ وبعدها، في العدد ٧، يقدم لنا ثلاثة مبادئ تساعدنا لفهم مبادئ عن امتيازنا بحسب نظرة الله.
١- المسيح هو الذي يميِّزنا:
فالآية تقول: "لأَنَّهُ مَنْ يُمَيِّزُكَ؟" وليس "ما يميِّزُك"؛ فالوحي يغير السؤال الذي عادة نسأله لأنفسنا:
ما هو الذي يميزني؟ أو ما هو الذي يميز فلان؟
إلى سؤال أخر وهو: من هو الذي يميزني؟
فالوحي هنا يركز على أهمية، ليس بما نمتاز به من مواهب ومقامات وأدوار، بل مَنْ الذي يميِّزنا؟ وهو وجود الرب يسوع المسيح في حياتنا؛ لأنه هو أساس تميُّزنا ومقامنا وكرامتنا.
٢- مواهبنا هي عطايا من الله بالنعمة:
ويكمل الآية ويقول: "وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟"؛ وهنا قد أبرز الوحي أن كل المواهب هي عطايا وهبات من الله بالنعمة؛ بعد أن وضح هذا من خلال الأصحاح السابق (١ كورنثوس ٣: ١٠). فماذا فعل بولس من أعمال صالحة لكي يستحق أن يكون رسول؟ ربما ما فعله من قتل وتهديد للمؤمنين بالمسيح يؤهله بأن يكون مجرمًا وليس رسولاً (إعمال ٩: ١). فعطايا الله لنا هي بالنعمة وليس بحسب استحقاقنا ومؤهلاتنا: الاجتماعية، الروحية، أو العلمية. لذلك يقول الوحي في نفس الرسالة، في الإصحاح الأول:
" 27 بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ 28 وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ 29 لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ."
فلا يقدر أي إنسان أن يفتخر أمام الله؛ لا بالألقاب ولا بالمقامات؛ ولا بالتحصيل العلمي؛ ولا بالغِنى؛ ولا بأي شيء آخر؛ مهما كان مركزه أو إنجازاته؛ بل لجميعنا يوجد خلفية واحدة مشتركة – أموات (أفسس ٢: ١). لكن نعمة الله افتقدتنا وخلصتنا وأحيتنا، وجعلت منا شيء نافع لملكوت إلهنا، ليعود كل المجد لله ليس لنا. لذلك مع أن بولس هو رسول المسيح، وهي أعلى حِقبة روحية في العهد الجديد، لقد اعتبر نفسه كأبلوس لا شيء أمام الله، عندما قال:
" ٧ إِذاً لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئاً (أي بولس) وَلاَ السَّاقِي (أي أبلوس) بَلِ اللهُ الَّذِي يُنْمِي." ١ كورنثوس ٤.
وركز جُل تعظيمه لله الذي ينمِّي، وليس لنا بناءً على الأدوار التي وهبنا اياها الله بنعمته. فلم يعتبر بولس أبلوس أقل منه مقامًا إطلاقًا، ككونه تلميذ لتلاميذه أكيلا وبرسكيلا (أعمال ١٨: ٢٦)؛ ولم يقلل من شأن خدمته أبدًا، بل اعتبره مثله تمامًا دون أي تمييز.
٣- الذي عنده أكثر، يجب أن يتواضع أكثر:
" وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟” إن الوحي هنا يقدم حقيقة مفاجِئة لنا، وهي أن الذي يحق له أن يفتخر، هو الذي لم يأخذ مواهب وعطايا من الله، وليس العكس. لأن الذي عنده مواهب أكثر، هو مديون أكثر، لذلك يجب أن ينكسر ويتواضع أكثر. فالوحي يقدم لنا شعارًا هامًا، هو أننا جميعًا مديونين لله:
" أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ (أي كسداد للدين)." رومية ٤: ٤.
" ...فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ.” لوقا ١٢: ٤٨.
فالمديون بمئة ألف دينار، ويريد أن يسد خمسين، يجب أن يسدها بانكسار أكثر بكثير من المديون بمئة دينار، ويريد أن يسد خمسين.
إذًا كرامتنا هي كرامة المسيح، ومقامنا هو مقام المسيح، لا نحتاج أن نضيف عليه شيء، ولا نحتاج أن نحذف منه شيء. وهكذا كان مثال المسيح لنا، لقد خاطب الرجال البرص المسيح وقالو لها: “يا يسوع ما مُعلم ارحمنا" (لوقا ١٧: ٣٨)، دون أي ألقاب، ويسوع قبلهم بفرح ووداعة، وشفاهم. فإذا دعيت كاهنًا باسمه دون كلمة "أبونا"، هل سيتقبَّل هذا؟ وهناك أيضًا قسوس ينزعجون إذا دعاهم الناس دون لقب "قسيس"، فهل نريد أن نكون مميزين بالألقاب؟ أم بِمَنْ يميِّزنا؟ فالمسيح هو الذي يميزنا، ويعطينا مواهب وأدوار بنعمته، لكي نكون متواضعين ونخدم بعضنا البعض بمحبة ووداعة.