اذكرُ يوم وصلت للقاهرة لأول مرة في إحدى الليالي الصيفية من آب 1987 ورأيت المدينة العملاقة مترامية الأرجاء ، البنايات الشاهقة ، الشوارع متعددة المسارات وعشرات آلاف المشاة والسيارات في كل بقعة. للوهلة الأولى انتابني زهو بكوني عربياً أتواجد في عاصمة العالم العربي الذي انقطعنا عنه لسنين طويلة.
خلال زيارتي اتضحت لي الصورة الحقيقة لمصر وشعبها. تحول هذا الفخر الى خيبة أمل من مصر كدولة ولكن محبة لهذا الشعب المرح والطيب.
بعد انسداد الشهية الاولى للتواصل الجديد مع حضارة كبرى الدول العربية، اقتصرت زيارات عرب بلادنا لمصر في السعي وراء منتجعات سياحية رخيصة وشعبية وخاصة في طابة وشرم الشيخ .
شاهدنا بأم عيننا ذل الفقر وقمع الحريات في مصر واختبرنا دولة عالم ثالث مكتظة يشق دخان السيارات عباب السماء فيخنق التلوث كل قاطن فيها. مع ذلك لم ننس حضارة المصريين ولا منابر الأدب والفن التي لمعت في مصر. أعجبنا بالأهرامات وأبو الهول وذهلنا لقبر توت عانخ أمون ورمسيس. ترعرعنا كما كل العرب على أنغام أغاني ام كلثوم وفريد الأطرش وأسرعنا لسماع عبد الوهاب وعبد الحليم، كما قرأنا وأحببنا كتابات يوسف ادريس ، نجيب محفوظ وطه حسين. كانت القاهرة العاصمة الروحية وليس الحضارية فحسب. فاستوردنا مئات الترانيم المصرية للعبادة في كنائسنا واستمتعنا بأداء فريق الحياة الأفضل والمرنم نجيب لبيب لها . كما تباركنا من عظات طيب الذكر اميل بطرس وتعلمنا من تفاسير وكتابات أكرم لمعي، متى بهنام وابراهيم سعيد.
رغم مساهمات المصريين العديدة عبر العصور غير ان لحظة حبي لمصر تولدت حين فتحت ذراعيها للطفل يسوع أمام قمع وبطش الدموي هيرودس. مصر احتضنته وكانت له نعم الملجأ حتى هدأت الأحوال فخرج منها عائداً لفلسطين وللناصرة تحديداً. كان حري بمصر الا تهمل دورها كملجأ آمن لذلك الطفل ولأتباعه، ولكن هيهات...
نتابع اليوم بترقب على شاشة التلفاز الهبّة الشعبية ضد نظام الرئيس حسني مبارك والنخب الحاكمة المستفيدة، ولا يسعنا ان نراها الا في ظل العملية الإرهابية ليلة راس السنة ضد المسيحيين الأقباط في الإسكندرية. لقد فشل الرئيس مبارك في لجم الإرهابيين كارهي المسيحيين لسنين طويلة، فوجد هؤلاء في اتباع المسيح فريسة سهلة.
من هنا استحق مبارك مصير عزله لهذا الفشل على الأقل. كما جلس الرئيس المصري مكتوف الأيدي ثلاثة عقود أمام المطالبة بتغيير القوانين والإجراءات الحكومية الموجهة ضد المسيحيين. فهناك تقييدات بناء الكنائس وهناك التمييز ضد المواطنين المسيحيين في التعيينات والوظائف وهناك التهميش المنهجي وغيرها.
تقوم الاحتجاجات الجماهيرية اليوم ضد الرئيس المصري لأسباب أخرى هي الفقر المستشري والفساد ويطالبونه بالاستقالة وإفساح المجال لقيادات اخرى . الرئيس يحاول إسكات المناهضين المحتجين عن طريق بعض التعيينات الجديدة وكلام منمق عن الحريات والديمقراطية. المحتجّون يصرّون على أن يخلي الساحة. طبيعة كل هبة شعبية كهذه ان يسودها فوضى وأن يتبعها للأسف نهب للممتلكات العامة وحتى الخاصة.
في حال نجح مبارك في التشبث برئاسته فانه لربما سيضطر القيام بتغييرات وإصلاحات دستورية تخفف القمع . أما في حال تنحيّه عن الحكم فأننا نصلّي ان لا يخلفه رؤساء من ذات الصنف . سيناريو أسوأ هو استلام الحركات الدينية الإسلامية للحكم فيزيدون الطين بلّة ضد المسيحيين وضد مصر ككل فيقودونها إلى الوراء .
كمسيحيين علّمنا سيدنا بضرورة محبة الخير للناس أجمعين وكأتباع المسيح من العرب فإننا نطلب الخير لأرض الكنانة وشعبها ونصلّي أن لا يكون هناك سكب دماء إضافي. كما نضرع للعلي أن تسود حريات دينية في مصر بدل القمع والتعصب وهما من سمات التخلف أصلاً.
كعرب علينا واجب مضاعف أن نصلي ان يفتح الرب ابواب العالم العربي بأكمله وليس مصر فقط للحريات الدينية فتتحول بلاد الشرق من تخلف وتعصب الى حرية وانفتاح ونجاح ورفاهية.
تواجد العرب في اورشليم يوم الخمسين في احتفال تأسيس كنيسة الرب يسوع وهم يستحقون اليوم أن تمتلئ بلادهم في الشرق برمته، وأولها في مصر،بالكرامة، العدل ،لقمة العيش الكريم والحرية السياسية والدينية.