بيت لحم تضيء شجرة الميلاد بعد عامين من العتمة

تعود أنوار شجرة الميلاد لتضيء سماء بيت لحم بعد عامين من العتمة والاحتفالات المعلّقة، لكن خلف المشهد المبهج تقف حقيقة أكثر قسوة: المدينة التي وُلد فيها المسيح تفقد أبناءها المسيحيين عامًا بعد عام.
قبل 22 ساعة
بيت لحم تضيء شجرة الميلاد بعد عامين من العتمة
لينغا

فرح مؤجَّل في مدينة المهد… وواقع مسيحي يتقلّص بصمت

شهدت بيت لحم هذا الأسبوع إضاءة شجرة الميلاد الضخمة في ساحة المهد للمرة الأولى منذ عامين، بعد فترة علّقت فيها الاحتفالات العلنية الكبرى بسبب الحرب في غزة والانهيار الحاد في السياحة والصعوبات الأمنية والاقتصادية التي عصفت بالمدينة.

الشجرة التي يصل ارتفاعها إلى نحو عشرين مترًا نُصبت كالمعتاد أمام كنيسة المهد، وازدحمت الساحة بالحضور من مسيحيين ومسلمين، إضافة إلى وفود من الحجاج والسياح الذين بدأوا يعودون تدريجيًا بعد سنوات من الغياب. في كلمته أمام الحضور، شدّد رئيس بلدية بيت لحم ماهر قنواتي (ماهر نيقولا قنواتي) على أن عيد الميلاد «لا ينبغي أن يُلغى»، رغم الجراح المفتوحة في غزة والضفة الغربية، مؤكدًا أن المدينة تريد أن تبعث رسالة أمل وصمود للعالم.

ورغم الأجواء الاحتفالية، حافظت المراسم على نبرة أكثر هدوءًا من السنوات الذهبية السابقة؛ فالألعاب النارية كانت محدودة، والخطابات امتلأت بكلمات عن الألم الفلسطيني، والحضور تحدّثوا لوسائل الإعلام عن مزيج من الفرح بعودة العيد والخوف من مستقبل لا يزال غامضًا.

من 85% إلى 10%: كيف تحوّل المسيحيون إلى أقلية في مدينتهم؟

عشيّة نهاية الانتداب البريطاني عام 1947 كان نحو 85% من سكان بيت لحم من المسيحيين. اليوم، وبعد أقل من ثمانية عقود، يتحدّث رجال دين وباحثون عن واقع صادم: المسيحيون يشكّلون فقط نحو 10% من سكان منطقة بيت لحم الأوسع.

دراسات سوسيولوجية وإحصاءات كنسية تبيّن أن نسبة المسيحيين في المدينة انخفضت تدريجيًا:

من أغلبية ساحقة في منتصف القرن العشرين، إلى ما يقارب 40–50% في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى ما دون 15% في العقد الأخير، قبل أن تستقر التقديرات اليوم حول 10–12% فقط.

الأسباب متشابكة ومتداخلة:

  1. الهجرة الاقتصادية والسياسية:
    الحروب المتكررة، إغلاق المعابر، وانهيار السياحة – التي تشكّل العمود الفقري لاقتصاد المدينة – دفعت آلاف العائلات المسيحية إلى الهجرة نحو أوروبا والأميركيتين وأستراليا بحثًا عن استقرار اقتصادي وأمني.
     
  2. ضغط الصراع والاحتلال:
    جزء كبير من المسيحيين، شأنهم شأن سائر الفلسطينيين، يشيرون إلى القيود الإسرائيلية على الحركة والبناء والعمل، وإلى الجدار الفاصل والحواجز العسكرية، بوصفها عوامل مركزية في قرار الهجرة و«تعب الناس من الانتظار».
     
  3. تغيّر البنية الاجتماعية والدينية:
    معدّلات الولادة الأعلى لدى المسلمين مقارنة بالمسيحيين، وصعود تيارات إسلامية أكثر تشددًا في المنطقة، جعلت المسيحي يشعر أحيانًا بأنه أقلية مضغوطة بين مطرقة الاحتلال وسندان الشارع المتوتر. رجال دين محليون حذّروا في السنوات الأخيرة من ازدياد الخطاب المتطرّف وأعمال المضايقة تجاه المسيحيين في بعض الأحياء.
     
  4. تراجع الثقة بالمستقبل:
    عندما يشعر الشاب المسيحي أن فرص العمل محدودة، والحريات مهددة، والضباب يلفّ الأفق السياسي، يصبح جواز السفر الأجنبي حلمًا يختصر كل التناقضات. هكذا تفقد بيت لحم عامًا بعد عام جزءًا من نخبتها التعليمية والمهنية.

في النتيجة، يقرع رجال دين مسيحيون في بيت لحم ناقوس الخطر: إذا استمرّ هذا النزيف الديمغرافي، فإن جماعة المسيحيين في مدينة الميلاد قد تتحوّل خلال جيل واحد إلى وجود رمزي فقط، أشبه بـ«ذاكرة تاريخية» أكثر منه جماعة حيّة فاعلة.

معالم مسيحية تحوّلت إلى إسلامية: مشهد أوسع من بيت لحم

ما يحدث في بيت لحم اليوم لا يمكن فصله عن خريطة تاريخية أوسع في الشرق الأوسط، حيث شهدت القرون الماضية تحوّل عدد من الكنائس الكبرى إلى مساجد، أو إلى مواقع تحمل هوية إسلامية غالبًا ما تُخفي – عن قصد أو عن جهل – جذورها المسيحية.

1. آيا صوفيا – إسطنبول

آيا صوفيا شُيّدت في القرن السادس كأعظم كاتدرائية في العالم المسيحي الشرقي، ثم تحوّلت إلى مسجد بعد الفتح العثماني للقسطنطينية عام 1453، قبل أن تُعلَن متحفًا في القرن العشرين، وتُعاد إلى مسجد عام 2020 بقرار سياسي أثار جدلاً عالميًا واسعًا.

بالنسبة لكثير من المسيحيين في المنطقة، يمثّل هذا المسار نموذجًا لكيفية تغيّر هوية المعلم الديني تبعًا لموازين القوى السياسية، مع ما يحمله ذلك من جرح رمزي عميق في الذاكرة المسيحية.

2. الجامع الأموي – دمشق

في قلب دمشق القديمة، يقف الجامع الأموي اليوم كواحد من أقدم وأهم المساجد في العالم الإسلامي. لكن موقعه حمل عبر العصور وجوهًا مختلفة:

معبد وثني في العهد الآرامي، ثم معبد للإله جوبيتر في العصر الروماني، ثم كاتدرائية مكرّسة ليوحنا المعمدان في العصر البيزنطي، قبل أن تتحوّل إلى جامع كبير في مطلع العهد الأموي، مع بقاء تقليد يربط المكان برأس يوحنا المعمدان حتى اليوم.

هذا التراكم المعماري والديني يذكّر بأن هوية المكان لم تكن يومًا بسيطة، لكن النتيجة العملية هي أن الوجود المسيحي التاريخي في الموقع صار طبقة مدفونة تحت لغة معمارية ودلالات دينية جديدة.

3. الجامع الكبير في الرملة – فلسطين التاريخية

في الرملة داخل إسرائيل اليوم، يقف «الجامع الكبير» أو مسجد الرملة العمري، الذي كان في الأصل كنيسة بناها الصليبيون في القرن الثاني عشر، قبل أن يتحوّل لاحقًا إلى مسجد.

هذه الأمثلة – وغيرها في سوريا والعراق وتركيا – لا تعني أن التحوّل كان دائمًا عنيفًا أو دمويًا؛ أحيانًا جرى في إطار ترتيبات سياسية أو ديموغرافية معقّدة. لكنها تذكّر بأن جزءًا معتبرًا من الجغرافيا المسيحية في المشرق تحوّل ببطء إلى جغرافيا ذات طابع إسلامي، بينما تراجع الوجود المسيحي السكاني من حوله.

بيت لحم بين الرمز والواقع: ماذا يعني هذا لموقع مسيحي؟

من موقع مسيحي إخباري، لسنا معنيين بتحويل التاريخ إلى سلاح كراهية، ولا بتحويل أي جماعة دينية إلى متهمٍ دائم. لكن من واجبنا أيضًا ألا نسمح بأن تختفي الحقيقة خلف العناوين المريحة.

في هذا السياق، يثار أيضًا سؤال حول خطاب بعض القيادات الكنسية التي تحصر المسؤولية عمّا يجري بالممارسات الإسرائيلية وحدها، متجنّبة التطرّق إلى العوامل الداخلية في المجتمع الفلسطيني، من فساد وضعف حماية الأقليات وتصاعد خطاب التشدّد الديني. قد يكون وراء هذا الصمت حسابات سياسية أو خوف غير معلَن أو رغبة في تجنّب صدامات داخلية، لكن النتيجة واحدة: صورة منقوصة لا تساعد المؤمنين على قراءة الواقع بصدق، ولا تشجّع على تحمّل المسؤولية المشتركة عن مستقبل الوجود المسيحي في مدينة المهد وفي المنطقة كلّها.

نعم، الحرب في غزة والصراع مع إسرائيل أثّرا بشدة على اقتصاد بيت لحم وسياحتها، وعلى شعور الناس بالأمان والكرامة.

نعم، القرار بإطفاء الشجرة لعامين جاء من البلدية، في سياق تضامن سياسي مع غزة، لكنه دفع التجار والعائلات المسيحية إلى ثمن اقتصادي وروحي باهظ.

ونعم، هناك أيضًا عوامل داخلية في المجتمع الفلسطيني نفسه – من فساد وعجز سياسي إلى تزايد الخطاب الديني المتشدّد – تساهم في دفع المسيحيين نحو الباب المفتوح إلى الهجرة.

إضاءة شجرة الميلاد هذا العام ليست مجرد احتفال موسمي؛ إنها اختبار لمدى قدرة بيت لحم على أن تبقى مدينة حيّة للميلاد، لا متحفًا مفتوحًا لذكرى ميلاد المسيح فقط. وجود جماعة مسيحية حقيقية – تصلي، تدرّس، تبني، وتخدم مجتمعها – هو ما يعطي هذا الضوء معناه.

من مسؤولية الكنائس المحلية والقيادات المسيحية – في فلسطين والشرق الأوسط والمهجر – أن تتعامل مع هذه الحقائق بصراحة:

بالدفاع عن حرية العبادة وحقوق المواطنة المتساوية،

وبالعمل مع الشركاء المسلمين واليهود الذين يؤمنون بكرامة الإنسان،

وبإبقاء ملف الهجرة والاضطهاد الاقتصادي والسياسي للمسيحيين حاضرًا على طاولة النقاش الدولي.

بيت لحم أضاءت شجرتها بعد عامين من العتمة. لكن التحدّي الحقيقي هو: كيف نمنع أن تنطفئ «الشمعة المسيحية» نفسها في مدينة المهد؟
هذا السؤال يجب أن يبقى في صدارة أي تغطية مسيحية للأخبار، إذا أردنا أن نكون أوفياء للرسالة التي خرجت من هذه المدينة قبل ألفي عام: رسالة نور لا يُطفأ، وعدل لا يُباع في سوق السياسة.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا