إشارات إلى العهد القديم – سابعًا: المسيح يريد رحمة لا ذبيحة

الأولى في الجواب التالي على رسالة يوحنّا المعمدان التي حملها إلى السيد المسيح اثنان من تلاميذ ‏المعمدان.. أمّا الإشارة الثانية في جواب المسيح، فواضحة في قوله {والْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ} مشيرًا إلى..
29 أكتوبر 2015 - 00:04 بتوقيت القدس

وصلت بقراءتي الإنجيل، بتدوين متّى، إلى الأصحاح التاسع. وفيه بحسب الآيات 2 إبراء مُخلَّع 9 دعوة ‏متّى، مدوِّن الإنجيل المسمّى باسمه، وكان من جُباة الضرائب 13 مجاوبة يسوع الفريسيّين على تناوله ‏طعامًا مع عشّارين وخطاة 14 مجاوبة يسوع تلاميذ يوحنّا المعمدان على موضوع متعلّق بالصوم 19 ‏شهادة يَايِرُس رئيس المَجْمَع ليسوع بإحياء الموتى فأحيا يسوع صَبيّته في الآية 25 وكانت ابنتَهُ الوحيدة ‏‏(بحسب الرواية في لوقا\8 وفي مرقس\5 أيضًا) بالإضافة إلى 22 شفاء امرأة نازفة الدم منذ اثنتي عشرة ‏سنة و30 تفتيح أعميَين و33 إطلاق لسان أخرس وأخيرًا وليس آخِرًا 35 طواف يسوع في المدن كلَّها ‏والقرى كارزًا ببشارة الملكوت وشافيًا من الأمراض.

الإشارة إلى العهد القديم

هي في قول يسوع التالي مُجيبًا على الفريسيّين: {اذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لأَنِّي ‏لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَة} فقد ورد قوله {إِنّي أُرِيدُ رَحْمَةً لا ذَبِيحَةً} في سِفر هوشع 6: ‏‏6 وهنا قال القديس يوحنّا الذهبي الفم عن هذه الرحمة التي يطلب الله أن تكون في الإنسان: [الآن ‏ليس وقت الدينونة بل الرحمة؛ ليس لنا أن نطلب الحساب بل أن نُظهر المحبة، ليس لنا أن نرفع ‏الدعاوى بل نتنازل عنها، ليس وقتًا للحكم والانتقام بل إظهار الرحمة وعمل الصلاح. هذه الرحمة ‏هي طبيعة الله نفسه] كما كتب القديس أمبروسيوس: [يجب أن نعرف أن الله إله رحمة، يميل إلى ‏العفو لا القسوة. لذلك قيل: "أريد رحمة لا ذبيحة" فكيف يَقبَل الله تقدماتكم (ذبائحكم، حسناتكم) ‏يا من تنكرون الرحمة، في وقت قيل عن الله (في حزقيال 18: 32) أنه لا يريد موت الخاطئ بل ‏رجوعه عن أخطائه؟‎ ‎

قراءة في الأصحاحَين العاشر والحادي عشر

لم أعثر في الأصحاح العاشر على أيّة إشارة إلى العهد القديم، عِلمًا أنّ فيه أسماء رُسُل المسيح الإثني ‏عشر وخبر إرسالهم للتبشير مع وصايا وتعليمات. لذا انتقلت إلى الأصحاح الحادي عشر وفيه 4 جواب ‏من المسيح ليوحنّا المعمدان 7 مديح ليوحنّا بلسان المسيح 25 حمد المسيح الآب رب السماء والأرض ‏‏27 دعوة المسيح المُتْعَبِينَ والثَّقِيلِي الأَحْمَالِ لكي يأتوا إليه. وفي هذا الأصحاح خمس إشارات إلى العهد ‏القديم، لكنّي اكتفيت بذكر اثنتين، كي لا تطول المقالة، ما قد يؤدّي إلى الملل من قراءتها.‏

الإشارتان الأولى والثانية ‏

الأولى في الجواب التالي على رسالة يوحنّا المعمدان التي حملها إلى السيد المسيح اثنان من تلاميذ ‏المعمدان: {اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بمَا تَسْمَعَانِ وَتَنظُرَان: اَلعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، ‏وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعثُرُ فِيَّ}+ متّى 11: 4-6 وفي ‏جواب المسيح إشارتان؛

الأولى: إلى الوارد في أشعياء 35: 4-5 {قولوا لِمَنْ فزِعَت قُلوبُهُم: ((تَشدَّدوا ولا تخافوا! ها إلهُكُم آتٍ ‏لخلاصِكُم. يُكافِئُكُم على أمانتِكُم، ويَنتَقِمُ لكُم مِنْ أعدائِكُم)) عُيونُ العُمي تَنفَتِحُ، وكذلِكَ آذانُ ‏الصُمِّ...} وجواب المسيح، الدقيق كما جرت العادة، يعني التالي: أن يرجع التلميذان إلى المعمدان ‏ليقولا له إنّهما شاهدا المَسِيّا المنتظر المتنبّأ عنه في كتب الأنبياء. وهنا علّق القدِّيس أغسطينوس قائلًا: ‏‏[كأنّ المسيح يقول لهما: لقد رأيتُماني فلتَعرِفاني! لقد رأيتُما أعمالي، إذنْ فلتعرِفا صانِعَها... وطوبى لمَنْ لا ‏يعثر فيّ] انتهى. وإرسال المعمدان اثنين من تلاميذه إلى المسيح، شاهدَين لأنّ شهادة شخص واحد قد ‏لا تكفي، لا يعني إطلاقًا أن المعمدان "لم يعرف أنّ المسيح هو المَسِيّا" كما ظنّ بعض النقّاد، لكنّ ‏هدف المعمدان؛ إذ كان في السجن وفي الطريق إلى قطع رأسه، هو أن يتبع تلاميذُه، من بعد قتله، ‏المسيحَ بعدما شاهد اثنان منهم آياته (أي معجزاته) الباهرة لإنه حقًّا المَسِيّا المنتظَر من اليهود.‏

أمّا الإشارة الثانية في جواب المسيح، فواضحة في قوله {والْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ} مشيرًا إلى بداية أشعياء\ ‏الأصحاح 61 {رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعصِبَ مُنْكَسِرِي ‏الْقَلْبِ، لأُنادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بالْعِتْقِ، ولِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَق} والجدير ذكره هنا هو ممّا في تفسير القُمُّص ‏تادرس يعقوب سِفرَ أشعياء 61: 1 تحت عنوان "برنامج المسيح الخلاصي" إذ ورد فيه بتوقيع القديس ‏إيريناؤس: [أنّ اٌسم المسيح يحمل ضمنيًّا ذاك الذي يَمْسَح والممسوح (المسيح) والمَسْحَة ذاتها؛ فالآب ‏هو الذي يَمسَح، والابن يُمسَح، والروح القدس هو المَسْحَة] انتهى. وقول هذا القدِّيس يعني لي أنّ ‏الثالوث الإلهي تجلّى في إسم المسيح له المجد، إذ رسم هذا الإسم (المسيح) صورة للثالوث ثلاثية ‏الأبعاد لكن لا حدود لها.‏

أمّا اللافت في آية أشعياء\61 المذكورة فهو عِتق (أي تحرير) المسبيّين وإطلاق سراح الأسرى. ومعلوم ‏أنّ أشعياء عاش في القرن الثامن قبل ميلاد المسيح. فالكتاب المقدَّس، ابتداءً بالعهد القديم، نادى ‏بالتحرير من العبوديّة ومن الأسر. وقد اتّسع مفهوم العبوديّة في العهد الجديد، بعد مجيء المسيح ‏المخلِّص، ليُصبح عبوديّة الخطيئة ومرادفاتها. لأنّ الخطيئة مصدر كلّ شرّ. أمّا الشخص الذي حَرَّر ‏البشريّة من عبوديّة الخطيئة فهو السيد المسيح لأنّه الحقّ. فمَن عَرِفَ الحقّ تحرَّر: {فقالَ يَسُوعُ ‏لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلاَمِي فبالحَقِيقةِ تَكُونُونَ تَلامِيذِي، وتَعرِفُونَ الْحَقَّ، والحَقُّ ‏يُحَرِّرُكُمْ}+ يوحنّا 8: 32‏

وهذا الكلام يعمّ العالم أجمع ولا يخصّ اليهود الذين آمنوا به، والأدلّة في الإنجيل كثيرة. ثمّ أردف: ‏‏{فإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فبالحَقِيقةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا}+ يوحنّا 8: 36 لذا استحقّ الكتاب المقدَّس بجدارة أن ‏يصبح قلب حقوق الإنسان النابض وحجر الزاوية الذي استندت عليه.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا