أركان البداءة

مع مطلع عام جديد نصبو ونسعى لبدايات جديدة بحياتنا في شتى المجالات، منها قد يكون في نطاق العمل، منها التعليم، منها القيام بمشروع ما يستغرق حقبة من الزمن والتعب، كبناء بيت مثلا، ومنها في المجال الروحي، وهذا ما سنسلط الأضواء عليه
13 يناير 2012 - 14:05 بتوقيت القدس

مع مطلع عام جديد نصبو ونسعى لبدايات جديدة بحياتنا في شتى المجالات، منها قد يكون في نطاق العمل، منها التعليم، منها القيام بمشروع ما يستغرق حقبة من الزمن والتعب، كبناء بيت مثلا، ومنها في المجال الروحي، وهذا ما سنسلط الأضواء عليه هنا. أن هذي المساعي مطلوبة بل ومن الجيد اتخاذها مع كل بداية عام جديد، فنجدد العهود مع الرب فادينا تائبين عن الماضي ومصلين لأجل سنة أفضل.

كما ذكرنا، هذه الخطوة جيدة ومطلوبة، ولكن السؤال الأهم هو كيف نكمل العام وهل نفي بما قطعنا من العهود على أنفسنا أم لا ! قد يعاني البعض من "عجز روحي"، يظهر في فشل متكرر للقيام بالوعود التي تكلمنا بها أمام الله، فلا نفي بالوعد بقضاء فترة أطول مع الرب مثلا، وبعد أن كنا قد غفرنا "للمذنبين إلينا" تعود الحسرة أو البغضة لتعم قلوبنا تجاه من أساء الينا وأمثلة أخرى كثيرة. في اعتقادي أن هذه الظاهرة أو "الآفة الروحية" قد تواجه كل مؤمن في المسيح، فنحن بشر وعرضة للخل بالعهود بسبب الطبيعة القديمة التي تلازمنا طوال الحياة على الأرض، ولكن هذا لا يعني أن نستسلم لهذا العجز، والا فقد تكون نهايتنا "غير مرغوبة".

قد يكون السبب، أو أحد الأسباب الرئيسية، في خل الوعود هو خلل في الأساسات الروحية، أو بما يسميها الوحي "أركان البداءة" أو "كلام البداءة" (عب 5 : 12، 6 : 1). يعلم كلنا ما قد يحدث لبيت عندما تكون أساساته ضعيفة أو غير مبنية على الصخر، فهو عرضة للسقوط في كل لحظة. "الركن" هو الأساس الذي يرتكز عليه البيت، وتعاليم أركان البداءة هي الأسس التي علّمها الرب لنا، بالأخص تلك التي قالها في الموعظة على الجبل (متى 5، 6، 7)، تعاليم مثل محبة العدو، الاحسان لمن يبغضنا، الصلاة للمسيئين إلينا، كنز الكنوز في السماء، خدمة الرب دون المال، الذهاب ميلين لمن يسخّرنا ميلا، طلب ملكوت الله أولا وعدم الاهتمام بالأرضيات، حياة الصلاة والعلاقة مع الله التي عبّر عنها يسوع في الصلاة الربانية وغير ذلك. من المهم التنويه أن الرب ختم عظته على الجبل بمثل الرجل العاقل الذي بنى بيته على الصخر والرجل الجاهل الذي بنى بيته على الرمل والعواقب الناجمة عن كل بناء، ف"الرجل العاقل" هو ذاك المؤمن الذي سند حياته الروحية على التعاليم الأساسية للرب يسوع، وبعد الحفر والتعميق في مرحلة الأساس الذي يتطلب مجهودات وتدريبات ودروس روحية في "مدرسة الألم"، عندها سيبدأ الرب في عملية التشكيل والصقل لبناء بيت جميل ورائع، أي بناء حياتنا الروحية، على هذه الأساسات لنتمتع فيه ولكي يتسنى للرب أن يستخدم هذا البناء للآخرين لمجد إسمه وامتداد ملكوته. "الرجل الجاهل" يبني بيته بدون أساسات، فهو ذلك المؤمن الذي يريد من المرحلة الأولى لايمانه أن يرتقي السلم الروحي سريعا بدون أساس، فيبدأ حالا ببناء بيته الروحي بواسطة انتحال شخصيات لمؤمنين كانوا قد تعبوا في بناء حياتهم الروحية، ولكن سرعان ما يسقط بيته عند أبسط تجربة أو أمتحان يمر فيه.

لو واجه كل منا نفسه بأسئلة بسيطة: ماذا يكون رد فعلي عندما يتهجّم عليّ قريبي الانسان بشتّى أنواع العدائية، أن كان كلاميا أو حتى جسديا ؟ هل أحوّل له الخد الآخر أم أصد هجومه بنفس الطريقة التي هوجمت فيها ؟ أو ماذا يكون لسان حالي عندما يسخّرني شخص بالميل الأول، هل سأسير معه الميل الآخر ؟ هل فعلا أحب عدوي الذي يبغضني ويطلب الشر لنفسي ؟ هل أسلّم فقط على الذي يسلّم عليّ أم أبادر بالسلام على أولئك الذين يطلبون نفسي لأهلاكها ؟ هل أمارس وأداوم على حياة الصلاة والثبات في كلمة الله لبناء علاقة حميمة ويومية معه ؟ هل فعلا أسير بحسب تعاليم الأساسات التي علمنا إياها السيد أم أبحث عن "فتاوي" وتبريرات محاولا الهرب منها وأقنع نفسي، وربما الآخرين، اني على حق والأقبح من ذلك ايجاد تبريرات لتصرفاتي من آيات الكتاب ؟ أن الأجابة على هذه الأسئلة تساعدنا لتشخيص حالتنا الروحية ولأي فئة ننتمي، الباني بيته على الصخر أم على الرمل.

في مطلع الأصحاح الخامس من الرسالة الى العبرانيين، يحثنا كاتب الرسالة أن نترك كلام البداءة، وليس المقصود ب"الترك" أي اهمال الأساسات، حاشا، انما كاتب الرسالة يحث العبرانيين (أو اليهود المتنصرين) ألا يبقوا في مرحلة الأساس وعدم النضوج (تناول اللبن أي الحليب والذي يدل على مرحلة الطفولية وعدم النضوج) بل أن يتقدموا لأكل الطعام القوي للبالغين لتصبح حواسهم الروحية مدرّبة على التمييز بين الخير والشر (عب 4 : 11 – 14).

أن عالمنا ينظر الى التعاليم الأساسية المذكورة كأنها ضعف، فطالما نسمع تعييرات بل وهزءا من كثيرين مضمونها أن هذه التعاليم "ليست لهذا العصر"، أو "أن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"، ولكن تعاليم الرب هي لكل العصور والأزمنة، "لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12 : 10)، فقوة الرب في ضعفنا تكمل، لا بل يهتف بولس مفتخرا بضعفاته عندما قال: "فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليّ قوة المسيح" (2 كو 12 : 9)، والرب يسوع نفسه كان قد أنذرنا قائلا: "ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام" (متى 10 : 16).

مع بداية سنة جديدة ليتنا نفحص أنفسنا لتشخيص حالتنا الروحية، فإن كان بيتنا مبنيا على الرمل لنتب ونعيد البناء من جديد على أساس صحيح، وإن كان بناؤنا مرتكزا على الصخر لنتقدم لنأكل الطعام القوي للبالغين فننمو إلى تلك الصورة عينها لنصبح أبطالا في الإيمان وجنودا أمناء ووكلاء صالحين لخدمة السيد بحسب قلب الآب، وما أحوجنا إلى ذلك، بالذات في العصر الذي نعيشه.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا