الصوم المقبول لدى الله

تحدثنا في المقالة السابقة عزيزي القارىء عن أن هناك أنواعا من الصوم قد تكون مقبولة لدى الله وأخرى غير مقبولة
21 مارس 2021 - 19:16 بتوقيت القدس

مع أن الصوم يُعتبر أحد الوسائل الفاعلة التي تُقرّها الأديان للتقرُّب إلى الله ونوال رضاه، ورغم انه ما من دين أو عبادة حتى تلك العبادات الفلسفية واليونانية القديمة وغير السماوية إلا وله باع في التشجيع على الصوم وممارسته لأجل مصلحة الإنسان. إلا أن ظروف وشروط الصوم تختلف من عبادة واخرى ومن دين لآخر. وحقيقة أن ليست كل الأصوام مقبولة لدى الله هي حقيقة دامغة، بل إن للصوم شروطاً مُحددة مُعيّنة حتّى يكون مقبولاً لدى الله ويُقرّب الإنسان بحقّ له.
تُرى ما هي مُواصفات الصوم المقبول أمام الله؟ وكيف يُمكن للإنسان أن يجد له طريقاً؟ 
تابع معي .....

ما هو الصوم؟
الصوم في أبسط تعريف له هو الإمساك عن الطعام والشراب لفترة من الزمن.

متى يصوم الإنسان؟
يصوم الإنسان - عادة وفي الكثير من الأحيان - في أوقات الحزن أو الضيق أو للتقرُّب لله ابتغاء مرضاته أو عند التضرع أو التذلُّل أمام الرب لأجل أمر معين كشفاء مريض أو فك قيد أو أسر أو حل مشكلة أو النجاة من تجربة أو ضغط ما أو حتى يغير الرب ظروفا معينة بعينها، وهكذا نرى كم يحتاج الإنسان في حياته كثيرا للصوم مع أننا قليلا ما نعمل!  وفي الكتاب المقدس نقرأ عن كثيرين كانوا يمتنعون عن الطعام في أوقات التوتُّر الشديد بسببالضيق أو الغيرة أوالغضب أوالحيرة، مثل حنّة أم صموئيل التي أمام تعيير ضُرّتها لها "بكت ولم تأكل" صموئيل الأوّل1: 7)). كما كان الإنسان أيضاً يصوم في المناسبات والأعياد الدينية، كصوم اليهودي في عيد الكفّارة الذي يتكرر كل سنة. فالصوم يرتبط أحياناً بأوقات معينة في السنة )وهي المناسبات الدينية(، وفي أحيان أخرى يرتبط الصوم، كما ذكرنا سابقا، بحالة الإنسان التي تشكل دافعاً كي يصوم، مثل أوقات الشدّة كزمن الحرب، أو في وقت المرض أو الألم أو التجربة أو عند وقت الخطر الداهم. والكتاب المقدس مليء بالكثير من النماذج والأمثلة لكل هذه الحالات ربّما لن يسعنا المقال لكتابتها هنا مفصلةً.

لماذا يصوم الإنسان؟ وما هو المعنى والمغزى من وراء الصوم؟
نعلم يقيناً أن الصوم لا يقرب الإنسان من الله فقط، بل يُنقّيه ويُصفّيه من الداخل. إذ أن الصوم هو علامة انكسار وانسحاق من الإنسان أمام الله، لذلك فهو يأتي في الكتاب المُقدّس مُرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالعبادة النقيّة لله. وكثيراً ما كان يأتي مصحوباً بالحُزن ولبس المسوح وذر الرماد كعلامات خارجيّة تعبيراً عن انكسار الإنسان واتّضاعه أمام الله. وهذا النوع من التذلُّل له أساس نفسي، فالإنسان يُقرُّ أمام الله معترفاً بخطأه أو بضعفه وبأنّه تائب ونادم، مُتضعاً أمامه بلا تكبُّر أو تعالٍ، وكأنّه يُعبّر عن حالته وحاجته لله، وكأنّه يقول له: "أنا أمرُّ بحالة صعبة بما يكفي، وها أنا أصوم أمامك لأسترحمك أن ترفع عنّي ما أنا فيه." مع العلم أن الله يشعر بنا حتّى من دون ان نُعبّر له عن حاجتنا إليه. إلاّ أن هذا لا ينفي كون أنّه يفرح بنا إن نحن أتينا إليه عند حاجتنا.

الأنواع المُختلفة للصوم:
ومع أنّه يتّضح جليّاً ممّا سبق أن الصوم هو وسيلة إيجابيّة ورائعة للتقرُّب لله. لكن هذا لا يعني أن الله يُسرُّ دوما بنا في أي وقت وتحت أيّ ظرف أو بأيّ دافع نُمارس فيه الصوم .إنّما الموضوع يتوقّف بالأساس على نوع الصوم الذي نصومه، بل لنقٌل دافعه، فكما يوجد نوع من الصوم يقبله الله، فهناك نوع آخر من الصوم لا يُمكن أن يكون مقبولاً لدى الله، بل يصل الأمر أحياناً لأن يصير مثل هذا الصوم، ليس وسيلة نتقرّب بها من الله ونُرضيه، بل يصير صومنا مكرهة لدى الرب. وأرجو أن نتنبه جيّداً لما يقوله الكتاب المُقدّس في هذا الجزء المُرتبط بموضوع الصوم:  
"يقولون لِمَاذَا صُمْنَا وَلَمْ تَنْظُرْ، ذَلَّلْنَا أَنْفُسَنَا وَلَمْ تُلاَحِظْ؟ هَا إِنَّكُمْ فِي يَوْمِ صَوْمِكُمْ تُوجِدُونَ مَسَرَّةً، وَبِكُلِّ أَشْغَالِكُمْ تُسَخِّرُون. هَا إِنَّكُمْ لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ تَصُومُونَ، وَلِتَضْرِبُوا بِلَكْمَةِ الشَّرِّ. لَسْتُمْ تَصُومُونَ كَمَا الْيَوْمَ لِتَسْمِيعِ صَوْتِكُمْ فِي الْعَلاَءِ. أَمِثْلُ هذَا يَكُونُ صَوْمٌ أَخْتَارُهُ؟ يَوْمًا يُذَلِّلُ الإِنْسَانُ فِيهِ نَفْسَهُ، يُحْنِي كَالأَسَلَةِ رَأْسَهُ، وَيْفْرُشُ تَحْتَهُ مِسْحًا وَرَمَادًا. هَلْ تُسَمِّي هذَا صَوْمًا وَيَوْمًا مَقْبُولاً لِلرَّبِّ؟" (سفر إشعياء 58: 3 - 5).

هل لاحظت عزيزي القاريء كيف كان الوضع هنا؟ إنّهم أناس يصومون، لكن قلوبهم وأعمالهم ليست لإرضاء الله على الإطلاق. فإنُهم ظاهريّاً يطلبون الله، لكن واقعيّاً وداخليّاً لا، لذلك يقول الله لهم إن الصوم الذي لا تُصاحبه علامات وأدلّة وبراهين تُؤكّد صحّته لا يُمكن أبداً أن يكون مقبولاً لديه مهما كان شكله الخارجي، لأن الله إنّما هو يطلب الداخل لا الخارج.  والعبادة الظاهريّة قد تخدع الإنسان لكنّها لا يُمكن بأيّ حال أن تخدع الله. لذلك يُكمل الله في المقطع نفسه عن الصوم الحقيقي المقبول لديه فيقول: "أَلَيْسَ هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِير. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ، وَأَنْ لاَ تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ" (إشعياء 58: 6 – 7)  إنّ هذا هو الصوم الحقيقي المقبول لدى الله، وهذه هي علاماته وبراهينه.

كذلك فإن الصوم الذي يصومه البعض أيضاً للتعالي أو التظاهُر أو ليحصدوا نوعاً من الزهو أو التفاخُر عند الناس، لا يُمكن أن يكون مقبولاً عند الله. قال الرب يسوع في الموعظة على الجبل: "مَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَة" (إنجيل متى6 : 16 - 18). 

مواصفات الصوم المقبول لدى الله:
إذاً فالصوم المقبول لدى الله هو الصوم الذي يَنتجُ عن قلب نقي تائب يحب الله ويحفظ وصاياه ويُطيعها ويسعى إرضائه بكل ما أوتي به من قوة بمعونة إلهه، ويسلك وفق  مشيئته ولا يعادي أو يؤذي أو يضر أو يضطهد أحدا. أمّا الصوم الظاهري الذي يخرج من قلب لا يعتمر بمحبّة الله، فلن يحصد الإنسان من ورائه إلا العذاب وقمع النفس، من دون أيّ ردّة فعل أو انعكاس إيجابي من الله تجاهه بل إن هذا الصوم يكون مكرهة لدى الرب.

صديقي القارىء، يُرحّب الله دوما بصومك لكنّه من قبله يُريد قلبك. إن الموضوع كلّه يتوقّف على موقفك الداخلي تجاه الله. إن الصوم الحقيقي ليس هو صوماً عن الأكل والشُرب فقط، بل بالأساس هو الصوم عن كلّ إساءة وشرّ وخطيّة وعن أي أمر يُغضب الله. تمنّياتي لك أن تعرف الله الحقيقي أوّلاً، وعندها فقط سيكون صومك مقبولاً، والرب يُباركك.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا