مغزى الصليب ولماذا فدى الله الإنسان؟

ان قيمة الإنسان ليست بالمواد التي يتكون منها. قيمته بنسمة الله الحالّة فيه فهو مخلوق عجيب. منذ ولادته عجيب وكلّ عضو فيه عجيب والله قد أعطاه كيانا وعقلا يميّز ويدرك ويفهم أنّ حاجته لخالقه
16 أكتوبر 2017 - 00:19 بتوقيت القدس

كلمة فداء تعني تحرير أو استرجاع. وأول استخدام للكلمة في الكتاب عندما قضى الله على أبكار المصريين، وأنقذ أبكار بني إسرائيل بدم خروف الفصح، وأصبح هؤلاء الأبكار مِلكه.

لقد فدى الله إسرائيل من عبوديتهم للمصريين بقوة عظيمة "ترشد برأفتك الشعب الذي فديته" (خر15: 13). وكان هذا صورة لفداء النفس من عبودية الخطية. ففي تعليم العهد الجديد نجد أن الخطية استعبدت الإنسان، ولذلك احتاج إلى عمل المسيح لفدائه من سلطان إبليس، ومن عبودية الخطية، ومن نير الناموس، ومن سيادة العالم، ومن موت الجسد.

ان قيمة الإنسان ليست بالمواد التي يتكون منها (حديد وكبريت ودهن وسكّر وماء وملح... الخ) الإنسان حقير إذا قدّرت قيمته بهذه المواد الّتي يتكون منها وتظهر قيمتها بعد أن تفارقه نسمة القدير. وأين يجب أن توضع وفي أيّ عمق خوفا مما تسبّبه من كوارث بعد وقت قليل. لكن قيمة الإنسان بنسمة الله الحالّة فيه فهو مخلوق عجيب. وكلّ ما فيه من أعضاء عجيب فمنذ ولادته عجيب وكلّ عضو فيه عجيب والله قد أعطاه كيانا وعقلا يميّز ويدرك ويفهم أنّ حاجته لخالقه. وبدأ هذا الشّعور وهذه المعرفة بعد سقوطه فأعلن وصرخ معبرًا عن حاجته إلى خالقه لينقذه من الخطيّة وسلطانها، وفتح له الله المحبّ طريق الفداء لينقذه بحقّ. هو 13: 14من يد الهاوية افديهم من الموت أخلصهم.

صحيح ان الله قدم الفداء للإنسان من محبّته الشّديدة له وهذه المحبّة ليس لها حدود فهي عجيبة ومدهشة من خالق عظيم لمخلوقاته، لكن لو حوّلنا الصليب إلى شيء جميل وإلى فلسفة رائعة للمحبة والتضحية لأجل عالَم لا يبالي، وتوقفنا عند ذلك، لكان فشلنا ذريعًا في فهم معنى الصليب. ولو استطعنا أن نستعرض آلام المسيح الفظيعة التي احتملها في جسده، وتفننّا في الوصف حتى جرت الدموع من الأعين غزيرة، وتوقفنا عند هذا الحد، لَمَا فهمنا المعنى الحقيقي لصليب المسيح.

فبعد أن سقط الإنسان ودمّرته الخطيّة وأفسدته حاول البعض من العلماء والحكماء والفهماء والفلاسفة وضع المبادئ والقوانين لردعه عن تصرفاته الخاطئة. ولكنّها لم تفلح بل زادت الحروب والاقتتال والدّمار منذ القديم وحتّى الآن. وفي أوّل عائلة على الأرض قتل الأخ أخاه وما زال الاقتتال حتّى الآن. لقد عالجت القوانين بتدخّل إلهي بعض الأمور فمنعت بعض الشّرور بقوّة السّيف. وأمّا داخل الإنسان مركز القيادة لإعطاء الأوامر فلم تتمكّن من معالجته: " لأنّ من القلب تخرج الأفكار الشّرّيرة قتل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف " مت 15: 19. فهذا القلب صار مسكنًا لإبليس فأتلفه ونجّسه وصار مركزا للشّرور. وهذه الحالة المرّة للإنسان والمعروفة من الله لسابق علمه جعلت الله أن يأتي من السّماء بشخص المسيح لخلاص الإنسان لأن "الأخ لن يفدي الإنسان فداء، ولا يعطي الله كفارة عنه، وكريمة هي فدية نفوسهم، فغلقت إلى الدهر" (مز 49: 7 و8).

ولا مجال ان نستفيض في هذا المقال في الكلام عن الكفارة، لكن اقول بإيجاز شديد: الكفارة تعني ترضية وتغطية، ترضية لأن الله أُهين بسبب الخطية، وتغطية حتى يستطيع الله القدوس والذي عيناه اطهر من ان تنظرا الشر (حب 1: 13) ان ينظر لهذا الانسان المجرم الفاسد، فقداسة الله تعتبر الخطية نجاسة يجب تغطيتها من أمام عيني الله. كما أن بر الله يعتبر الخطية تعديًا، وهذا هو المدلول المزدوج للكفارة: تغطية من أمام عيني الله نظراً لقداسة طبيعته، وترضية لغضبه العادل نظراً لبره. وهذا ما كان يحدث في يوم الكفارة العظيم عند اليهود حيث نرى تيسين، واحد منهم يقدم ذبيحة خطية والأخر يطلق فى البرية إعلاناً عن حمل الخطايا ورفعها. وكانت تلقى عليهم قرعة من يقدم ذبيحة ومن يطلق حياً، فالتيس الذي يموت يشير للمسيح الذي صلب ومات بسبب خطايانا. والذي يطلق حياً يشير له من حيث أنه قام غافراً خطايانا. الأول الذي مات يرضي عدل الله القدوس الذي لا يحتمل ولا يرضى بالخطية وينبغي ان يقتص منها، والثاني يعطي راحة للشعب بأن خطاياهم رفعت. (انظر لاويين 16).. وبالطبع لم يكن فى سلطان ملاك أو قديس أو نبي أن يقوم بعمل الكفارة وتغطية الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الإنسان لأن المخلوق المحدود لا يكفر عن الخطأ الموجه ضد الله غير المحدود فضلا عن ان كل هؤلاء هم بشر خطاة مثلنا بحاجة لمن يخلصهم.

فحتّى يرضي الله عدله الذي يُطالب بموت الانسان فهو قال وحاشا ان يغير كلامه: "اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ" (حز 18: 20). "أجرة الخطية هي موت" (رو 6: 23) جاء بشخص المسيح ومات بديلا عنه على الصّليب فكان لابد للموت ان يكون علنًا ليشهده الكثيرون حتى يؤمنوا بالقيامة، والتي هي البرهان على ان الله قبل ذبيحة المسيح. وكان لابد للفادي ان يحمل لعنة الانسان الناتجة عن كسره للناموس "افتدانا من لعنة الناموس اذ صار لعنة لأجلنا" (غل 3: 13) "لأنه ملعون كل من علق على خشبة" (تث 21: 23). جاء الله بشخص المسيح ليطعّم إنسانيّتنا الفاسدة بطعم سماويّ روحيّ لعدم وجود إنسان صالح على الأرض، جاء ليغيّر دواخلنا لا بل يخلقها من جديد، يخلق فينا طبيعة جديدة. فالله المحبّ القادر على كلّ شيء شاء أن يخلقنا خليقة روحيّة ووضع شرطا واحدا هو أن نرجع إليه تائبين مؤمنين بالفداء.

فآمن آدم ثم هابيل وشيث وإبراهيم وموسى والأنبياء وقدّموا الذّبائح الّتي ترمز للمسيح "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عب 9: 22 (. وكما أنّ الكبش ظهر بدون أب ولا أم وكان صحيحا هكذا ظهر المسيح من السّماء وليس من الزّرع البشريّ صالحا ليموت فدية عنّا. وجميع الأنبياء اعترفوا بخطاياهم فهذا اعترف بالقتل كموسى وداود وهذا يعترف أنّه كذب كإبراهيم وهذا يعترف أنّه نجس كأشعياء... الخ. وهذا بطرس يقول اخرج من سفينتي يا ربّ لأنّني رجل خاطئ وهذا بولس يقول أنا أوّل خاطئ وهذه المباركة مريم تقول: "وتبتهج روحي بالله مخلّصي" لو 1: 47.

كنا خطاة. وكان للشيطان الذي يعرف قانون الله جيدًا، كما يعرف أننا تعديناه، حُجة المشتكي على كل واحد منا (مز 109: 6، زك 3: 1- 3). والله البار لم يكن بإمكانه ابداً تجاهل تلك الشكوى الصحيحة التي تستوجب ادانتنا. بهذا المعنى كان للشيطان سلطان الموت علينا. فذهب المسيح البار ليموت مكاننا نحن الخطاة، وليأخذ نيابةً عن المؤمنين به الدينونة التي كانوا يستحقونها.

جاء المسيح المحبّة المتجسّدة إلى أرضنا وشاركنا اللّحم والدّم ولكن بدون خطيّة. وأظهر قوّته على الأرض وسلطانه على الحياة وعلى كلّ شيء معلنا عن ذاته أنّه هو الله بالذّات جاء من محبّته لخلاصنا. ظهر كإنسان لكي نتمكّن من رؤيته ولو ظهر بلاهوته لمات النّاس لفرط قداسته الّتي تفوق العقل البشريّ. ورأيناه كيف كان يقيم الأموات ويشفي الأمراض ويأمر الأبالسة فتطيعه بكلمة تخرج منه وكل شيء تحت سلطانه واخيرا هزم الموت وقام هو نفسه: "ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الرّاقدين فإنّه إذ الموت بإنسان (ادم). بإنسان أيضا قيامة الأموات(المسيح) لأنّه كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيُحيا الجميع" 1كو 15: 20 – 22. ان موت المسيح وسفك دمه الكريم هو الثمن الغالي الذي دُفع لشرائنا لنصبح مِلكه، وهنا لابد ان نتكلم بايجاز عن الفرق ما بين الفداء والشراء، فالشراء يعطينا معنى ملكية المسيح لنا والتي سدد ثمنها كاملاً بتقديم حياته الغالية على الصليب، أما الفداء فهو حالة نفوسنا إزاء هذا العمل حيث تتحرر النفس من مذنوبية الخطية وسيادتها. الشراء يُرينا حقوق المسيح على العالم بأسره وسلطانه على كل الخليقة، ليس باعتباره خالقًا إياها فقط، بل لكونه اشتراها كذلك بقيمة دمه الكريم. بينما يتجه الفداء إلى الذين تمتعوا في نفوسهم بنتائج عمله الكفاري من غفران الخطايا وسكنى الروح القدس. وكذلك هو القوة الجبارة المحررة لفكاكنا من كل قوى إبليس الغاشمة وسيطرة الخطية علينا، وتحررنا من الناموس، ومن العالم الحاضر الشرير وتأثيراته، وقريبًا يتحقق الانتصار على الموت بفداء الجسد، عندما يأتي المسيح لأخذ قديسيه إليه "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟" (1كو 15: 55).

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا