تنتشر بين الناس ظاهرة غريبة ومزعجة جداً، وهي سبب لمآسي ومشاكل كثيرة، ألا وهي ظاهرة الكراهية والرفض المزمن. فمثلاً: شخص يخطئ بحق شخص آخر وحتى لو كان من غير قصد، أو حتى لو كان أخطأ دون أن يفكر أن ما عمله كان خطأً، فيكون من الشخص الذي ارتكب الخطأ بحقه أن يأخذ موقفاً سلبياً من الشخص الآخر، وبالتالي يتوقف عن الحديث معه، ويقاطعه، ومع الأيام يسمح للكراهية أن تنمو وتترعرع في قلبه، لدرجة أن هذه الكراهية تعميه، ولا يعود يرى في الشخص الآخر إلا ما هو سلبي وبشع وشرير. وما أكثر مثل هؤلاء الناس في مجتمعنا.
الكراهية مرض، وتؤدي الى شعور مزمن بالغضب والعمى. وقد تدفع بصاحبها إلى ارتكاب حماقات كثيرة بما فيها قتل الآخر. وما أكثر ما تكون هذه الكراهية مبنية على الباطل.
قال الرب يسوع له المجد في متى 22:5: "إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ". وينتج الغضب الباطل في العادةً بسبب انعدام المحبة، وانعدام المحبة برهان على ضعف أو حتّى انعدام الإيمان. فالذي لا يؤمن بالرب يسوع، ولا يطيع أهم وصية له، وهي وصية المحبة لجميع الناس، هو إنسان خاطئ. وبالتالي لا نستغرب من الخطاة أن يكرهوا غيرهم ويغضبوا لأسباب باطلة ولا أساس لها.
نقرأ في إنجيل المسيح حسب البشير يوحنا يوحنا 19:7-24 "أَلَيْسَ مُوسَى قَدْ أَعْطَاكُمُ النَّامُوسَ؟ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ! لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟ 20أَجَابَ الْجَمْعُ وَقَالوُا: بِكَ شَيْطَانٌ. مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَقْتُلَكَ؟ 21أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: عَمَلاً وَاحِدًا عَمِلْتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعًا. 22لِهذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الْخِتَانَ، لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى، بَلْ مِنَ الآبَاءِ. فَفِي السَّبْتِ تَخْتِنُونَ الإِنْسَانَ. 23فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الْخِتَانَ فِي السَّبْتِ، لِئَلاَّ يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى، أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأَنِّي شَفَيْتُ إِنْسَانًا كُلَّهُ فِي السَّبْتِ؟ 24لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً".
نجد أنفسنا في في هذه الآيات من الإنجيل المقدّس أمام موقف مبني على الكراهية، وكيف أن هذه الكراهية، النابعة أصلاً من الغيرة والحسد والخوف على المصالح الشخصية الأنانية، أدت إلى تأصل غضب شديد في قلوب رجال الدين وقادة اليهود ضد شخص الرب يسوع المسيح لدرجة تآمرهم على قتله.
نلاحظ في البداية شهادة الرب يسوع لموسى حيث قال بأن "موسى أعطاكم الناموس" أي أن الله استخدم موسى لإيصال شرع الله إلى الشعب القديم. وبعد أن أشار الرب يسوع إلى حقيقة امتلاك الشعب لناموس موسى ومعرفتهم للشّريعة، نطق له المجد بعبارات قاطعة وقوية جداً:
1. "وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَعْمَلُ النَّامُوسَ": وجه الرب يسوع هذه العبارة لليهود (لاحظ الآيتين 11، 14)، وكان المقصود بالتحديد الجماعات المتدينة منهم، وخصوصاً رجال الدين الذين كانوا يدعون بانهم أبطال في حفظ الناموس والعمل بموجبه.
في عالمنا اليوم، ما يزال أتباع الرب يسوع يواجهون نفس الوضع، فالمتدينون يكرهونهم ويلاحقونهم ويضطهدونهم، مع العلم أن هؤلاء المتدينين يدَّعون بأنهم يحفظون كلام الله وبأنهم أتباع الديانة الحقيقية، وهم في الواقع لا يحبون الرب ولا يعملون بوصاياه.
أما الحقيقة الثانية التي كشفها الرّب يسوع، والتي كانت تملأ قلوب سامعيه من الحاقدين من اليهود المتدينين، فقد جاءت بطريقة سؤال يكشف نوايا قلوبهم الشريرة.
2. "لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟": نجد في الآية رقم 20 أن عامة الناس، وخصوصاً البسطاء منهم، لم يكونوا على درايةٍ بمخططات رجال الدين ضد شخص الرب يسوع، ولذلك أجابوه قائلين: "بك شيطان. من يطلب أن يقتلك؟" لم تكن هذه المرة الوحيدة التي قيل فيها للرب يسوع أن به شيطان، فقد تعرض لهذه التهمة كثيراً كما نقرأ في متى 34:9 "أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَقَالُوا: بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ!". وفي متى 24:12 "أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا: "هذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ". وفي مرقس 22:3 "وَأَمَّا الْكَتَبَةُ الَّذِينَ نَزَلُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ فَقَالُوا: إِنَّ مَعَهُ بَعْلَزَبُولَ! وَإِنَّهُ بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ". وفي لوقا 15:11 "وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: بِبَعْلَزَبُولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ". وفي يوحنا 48:8 "فَأَجَاب الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: أَلَسْنَا نَقُولُ حَسَنًا: إِنَّكَ سَامِرِيٌّ وَبِكَ شَيْطَانٌ؟" وفي آية 52 "فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: الآنَ عَلِمْنَا أَنَّ بِكَ شَيْطَانًا". وفي يوحنا 20:10 "فَقَالَ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ: بِهِ شَيْطَانٌ وَهُوَ يَهْذِي. لِمَاذَا تَسْتَمِعُونَ لَهُ؟". وكانت التهمة تقال بشكلٍ خاص عندما كان رجال الدين يريدون أن يقللوا من شأن عجائب الرب يسوع في شفاء المرضى، أو في نقض تعاليمه المقدسة وإعلاناته عن حقائق تتعلّق بشخصه ورسالته في العالم.
ولكن هنا في يوحنا 20:7 نجد أن الناس العاديين يقولون للرب يسوع "بِكَ شَيْطَانٌ"، وسبب قولهم هذا لم ينبع من كراهيتهم له، بل بسبب ما قاله متسائلاً: "لِمَاذَا تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي؟" حيث أن هؤلاء الناس العاديين كانوا يجهلون تماماً أفكار قادتهم، ولذلك تعجبوا مما قاله الرب وردوا عليه بعنف وقسوة.
نحن نعلم أن ما قاله الرب يسوع كان عين الحق، حيث نقرأ في يوحنا 1:7 "لأَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ". وفي 30:7 "فَطَلَبُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ، وَلَمْ يُلْقِ أَحَدٌ يَدًا عَلَيْهِ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ". وفي 32:7 "سَمِعَ الْفَرِّيسِيُّونَ الْجَمْعَ يَتَنَاجَوْنَ بِهذَا مِنْ نَحْوِهِ، فَأَرْسَلَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ خُدَّامًا لِيُمْسِكُوهُ". وفي 45:7 نقرأ عن سؤال رجال الدّين للخدام "فَجَاءَ الْخُدَّامُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ. فَقَالَ هؤُلاَءِ لَهُمْ: لِمَاذَا لَمْ تَأْتُوا بِهِ؟" فمؤامرة القبض على الرّب يسوع كانت حقيقية، وكان الرب يسوع يعلم تماماً بما يجري، فهو الله المتجسد العارف بكل شيء، أما الناس البسطاء فلم يكونوا على علمٍ بما يجري من حولهم.
بعد أن أشار الرب يسوع إلى حقيقة إهمال اليهود لناموس نبي الله موسى، أعطاهم مثلاً من واقع حياتهم، وهو ختان الأطفال، وكيف أنهم كانوا يختنون الطفل يوم السبت، إذا صادف أن اليوم الثامن على ولادة ذلك الطفل كان يوم سبت.
نقرأ في سفر اللاويين 3:12 "وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ يُخْتَنُ لَحْمُ غُرْلَتِهِ"، علماً بأن الختان بدأ قبل موسى، كما قال الرب يسوع: "لِهَذَا أَعْطَاكُمْ مُوسَى الْخِتَانَ لَيْسَ أَنَّهُ مِنْ مُوسَى بَلْ مِنَ الآبَاءِ"، كما نقرأ في سفر التكوين كيف أن إبراهيم اختتن هو وجميع الذكور من أهل بيته (تكوين 9:17-14). ومع أن اليهود كانوا يقدسون يوم السبت، ولكن حتى يتمموا ناموس موسى، كانوا يختنون أطفالهم يوم السبت إن صادف أن كان اليوم الثامن على ولادة الطفل هو يوم سبت. أي أن اليهود كانوا يخالفون وصية قدسية يوم السبت من أجل طاعة وصية الختان في اليوم الثامن، مع أن قدسية يوم السبت أهم جداً من الختان في اليوم الثامن، حيث كان بمقدورهم تأجيل الختان ساعات قليلة حفاظاً على حرمة يوم السبت، ولكن تمسكهم بحرف الناموس دفعهم لنقض السبت.
وهنا تحداهم الرب يسوع ووبخهم على ريائهم في إشارته إلى معجزة الشفاء التي قام بها يوم السبت، والتي أدت إلى غضب رجال الدين من الكهنة والكتبة والفرّيسيين عليه.
ففي يوحنا 21:7 قال الرب يسوع: "عَمَلاً وَاحِدًا عَمِلْتُ فَتَتَعَجَّبُونَ جَمِيعًا". وهذا لا يعني أن الرب قام بمعجزة واحدة حتى الآن، ولكنه أشار هنا إلى شفاء مريض بركة بيت حسدا في يوحنا 1:5ـ 18 والتي أدت إلى غضب رجال الدين عليه، لذلك قال الرب يسوع في الآية 23 للسّاخطين عليه: "فَإِنْ كَانَ الإِنْسَانُ يَقْبَلُ الْخِتَانَ فِي السَّبْتِ، لِئَلاَّ يُنْقَضَ نَامُوسُ مُوسَى، أَفَتَسْخَطُونَ عَلَيَّ لأَنِّي شَفَيْتُ إِنْسَانًا كُلَّهُ فِي السَّبْتِ؟
سمح رجال الدين اليهود أن يتم الختان في يوم السبت لتنفيذ وصية موسى مع أن الختان كان يتم في عضو واحد في الجسد كإشارة لحفظ العهد وللانفصال والتمييز عن الشعوب الأخرى. أي أنهم نقضوا السبت من أجل طهارة عضو من الجسد، لذلك كان بالحري بهم أن لا يغضبوا على شخص الرب يسوع الذي جعل جسد المريض كله شافياً وكاملاً. لقد سمح رجال الدين بأن يتم الختان يوم السبت، لكنهم رفضوا أن يتم شفاء إنسان كامل يوم السبت، وهم بذلك برهنوا على رياء واضح وفاضح، فهم لم يكونوا منسجمين مع أنفسهم، بل ناقضوا أنفسهم بأنفسهم.
فما أسوأ الكراهية، فهي تعمي الإنسان وتجعله يتصرف بطريقة شريرة جداً.
أنظروا إلى العالم من حولكم، واسمعوا لنشرات الأخبار: الناس الأقوياء والأغنياء يمارسون السرقة والزنا وأبشع أشكال الخطية، وللتستير على شرورهم يدَّعون الفضيلة والتّدين ويعاقبون الضعفاء والبسطاء على أي خطأ يقترفونه. نساء أو رجال يلعنون ويشتمون في بيوتهم، وإن صادفوا ورأوا غيرهم عمل ولو عملاً بسيطاً ينتقدونه وكأنهم قديسين وأبرياء.
ننتقد الآخرين، كما عمل رجال الدين مع الرّب يسوع المسيح، ولا نلتفت لشرور أنفسنا.
نطلق أحكاماً على الناس، ولا نلتفت إلى ما نقوله أو نعمله أو نفكر به.
لذلك أنهى الرّب يسوع حديثه عن ناموس موسى بعبارة تزخر بالحكمة والبصيرة: "لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً". نجد في هذه الكلمات توبيخاً شديداً من الرب يسوع لرجال الدين وللشعب، كما أنّه توبيخاً لنا وللعالم أجمع: "لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً". أي يجب أن يكون حكمنا على الناس مبنياً على الحق، أي على المعرفة والحقائق، وليس على المظاهر الخارجية. فيجب التروي ودراسة الأمور ومعرفة الحقائق قبل التوصل إلى النتائج بشكلٍ سريع.
حكم رجال الدين على الرّب يسوع بالموت لشفائه إنساناً كاملاً يوم السبت، أي بحجة تدنيس يوم السبت. مع أنهم كانوا يدنسون السبت دائماً بعمليات ختان الأطفال. لذلك كان عليهم أن يحكموا على أنفسهم أولاً إن كانوا يريدون أن يحكموا على الرب يسوع.
ما أسهل أن نحكم بالباطل على الناس، متخذين من مظهر أو تصرف أو قول أو موقف حجة لأحكامنا، دون أن نبحث الأمر ونعرف الحقيقة كاملة.
ما أكثر الأحكام التي تطلق على أتباع الرب يسوع الحقيقيين، كما أطلقت الأحكام على الرب نفسه.
يحكمون علينا بأننا نحب المال، ولا يرون أن كل تصرفاتهم وخدماتهم تنبع من محبتهم للمال.
يحكمون علينا بالخروج عن التقاليد، ولا يرون أنفسهم أعداءً للإنجيل ولحق الله في كل شيء.
يحكمون على أخلاقنا وشرفنا ووطنيتنا ومحبتنا لله، ولا يرون سلوكهم وسلوك أولادهم وبناتهم، والأهم أنهم لا يرون الكراهية التي تعمي بصيرتهم.
دعونا نتذكر دائماً قول الرب يسوع له المجد: "لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً".
لا تحكم على أخيك المؤمن.
لا تحكم على الكنيسة.
لا تحكم على الناس.
تروَّى، وصلِّ، واطلب من الله أن يكشف لك الحق.
راجع النّاس وافهم دوافعهم قبل أن تحكم عليهم.
صلِّ للرب أن يغفر لك على أيّ موقف قلبي سلبي تجاه أيّ إنسان في العالم.
أطلب من الرب أن يطهرك من مشاعر الكراهية.
اطلب العدل، وتصرف بمحبة مع الجميع.