مقدمة: ما الذي يدفع أي إنسان أن يترك بيته، حيث الأسرة والراحة والاستقرار والأمان، ويسافر في طريق مليئة بالمخاطر؟
هل السبب قصة حب؟ أم روح المغامرة والبحث عن المجهول؟ أو في سبيل المال والبحث عن الثروة؟ أم بدافع حب الشهرة أو حب المعرفة؟ كل هذه الأشياء تشكل دوافع حقيقية وصحيحة، ولكن يبقى الإيمان أو العقيدة أكبر دافع للإنسان لكي يترك الكثير من أمور الدنيا في سبيل قناعاته أو عقيدته.
ونحن نحتفل بذكرى عيد الميلاد، وفي أماكن مختلفة من العالم، نحتاج أن نسأل أنفسنا: ما الذي نحتفل من أجله؟ ما هو الدافع القلبي والصادق للإحتفال؟ هل لنفرح بصاحب العيد ونرفع له ترانيمنا وتسابيحنا وصلواتنا، أم لأهدافٍ أخرى لا تمجد الله. للأسف الشديد نجد أن الكثيرين في العالم، وقد يكون بعضنا منهم، يبحثون عن أمور كثيرة في عيد الميلاد، بما في ذلك أمور يرفضها الله ولكنهم لا يبحثون عن صاحب الميلاد.
في الاحتفال بإضاءة شجرة الميلاد في بيت لحم، أي في مدينة الميلاد، وفي بيت ساحور، أي بلد الرعاة، جاء الناس بحثاً عن الأضواء ورؤية الناس والملابس وسماع خطب سياسية ووطنية، ولم ينطق أحد باسم صاحب العيد، أي الرب يسوع المسيح له كل المجد. وفي ما يسمى بسهرات عيد الميلاد، يغني المطربون أغانٍ أقل ما يمكن وصفها بأنها رخيصة وتافهة وساقطة وبلا أي مضمون. ولا يكون لصاحب العيد أي مكان في سهرات المجون والسكر والموسيقى الهابطة والملابس غير اللائقة والكلمات الماجنة.
على العكس من ذلك تماماً، فإن الله يريد منا أمرين أساسيين: أن نبحث عن الحق وأن نقدم الأفضل. وهذا بالضبط ما حدث عندما ولد الرب يسوع المسيح قبل أكثر من ألفي سنة. يومها وجد رجال أبرار جاؤوا باحثين عن الحق، وقدموا أفضل ما عندهم.
نتعلم من الإنجيل المقدس، وتحديداً في متى 1:2-15، عن رجال تركوا بيوتهم حيث المركز والغنى والراحة، وجاؤوا إلى بيت لحم في رحلة بحث واستكشاف. ولمعرفة من هم هؤلاء الرّجال وما الذي جاؤوا يبحثون عنه، دعونا نقرأ قصتهم: "وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ. فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْبِ وَسَأَلَهُمْ: أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟ فَقَالُوا لَهُ: فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ لأَنَّهُ هَكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرّاً وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ: ﭐذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ. فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لاَ يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ انْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ. وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ. فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ: مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي".
القصّة في الإنجيل المقدّس تتحدث عن مجموعة من الرجال يسمّون بـالمجوس، والقراءة تثير جملة من الأسئلة أساسية عن هؤلاءالمجوس. وبصراحة أقول بأننا لا نعرف إجابات شافية لهذه الأسئلة حتى اليوم، ولكنني واثق بالرب بأننا سنعرف الإجابات لها عندما نلتقي بهم في السماء مع الرب يسوع.
من كان هؤلاء المجوس: الكلمة المستخدمة لوصف هؤلاء الرجال هي كلمة مجوس، وهي مأخوذة من كلمة "ماجو" الفارسية والتي تعني الكاهن والعالم بالفلك. ورد ذكر المجوس في العهد القديم في إرميا 3:39و13 وفي مواقع عديدة من سفر دانيال، بل أن الملك نبوخذ نصر ملك بابل أعطى النبي دانيال لقب ومكانة (كبير المجوس) أي كبير مستشاري الملك.
في متى 1:2 الكلمة اليونانية المستخدمة هي μαγοι(ماجوي) وترجمتها العربية مجوس، وفي الترجمات الإنجليزية ترجمت بعبارة wise men أي الحكماء. فالحديث هنا هو عن رجال حكماء وعلماء يعملون في بلاط الملوك والأباطرة كمستشارين عظماء. أي أننا أمام رجال لهم مكانتهم العلمية والاعتبارية والاجتماعية، ومع ذلك أطاعوا الرسالة التي عرفوها من رؤية النجم وضحّوا وخاطروا بالسّفر الطويل ليكونوا في محضر الطفل المولود، الملك العظيم.
كم كان عدد المجوس: من سياق القصة نستطيع أن نستنتج أن عددهم كان كبيراً نوعاً ما، ودليل ذلك هو أن "هيرودس الملك اضطرب وجميع أوروشليم معه". فلا يعقل أن يضطرب الملك وكل سكان أوروشليم من سؤال صادر عن عدد قليل من الرجال.
من أين جاء المجوس: على الأغلب أنهم جاءوا من بلاد فارس، أي إيران اليوم، وهي إلى الشرق من فلسطين. وبالتالي فوصولهم إلى القدس كان يعني السفر في طرق صعبة، بما فيها الصحراء.
أسئلتنا عن المجوس مهمة، لأن الأجوبة تكشف لنا حقيقة حاجة البشرية للرب يسوع. فهؤلاء الرجال كانوا أغنياء ولهم مراكزهم المرموقة والمتقدمة في مجتمعاتهم، ومع ذلك تركوا كل شيء وراءهم وجاءوا يبحثون عن يسوع. فليس صحيحاً ما يقال بأن الفقراء فقط يبحثون عن الله من أجل الحصول على عزاءٍ لأوضاعهم الصعبة، بل كل إنسان بحاجة إلى الله، الرعاة الفقراء والمجوس الأغنياء جاءوا إلى الرب يسوع. وكل واحد منا اليوم بحاجة أن يأتي إلى الرب يسوع، لأن عنده الشبع الحقيقي والغفران والحياة الأبدية.
سؤال المجوس: عندما وصل المجوس الى أوروشليم، كان سؤالهم: "أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له". يا له من سؤال مثير وملفت وآسر للعقول والقلوب
1. أين هو المولود: رأى المجوس نجم المولود في بلادهم البعيدة، وتبعوا النجم إلى أن وصلوا إلى أوروشليم، اللتي كانت العاصمة السياسية والروحية لشعب الله القديم، لإنه من البديهي أن يتم البحث عن الملك في العاصمة، مدينة الهيكل العظيم والقصور والأسواق. فالمجوس لم يعلموا أن الملك المولود جاء متواضعاً ووديعاً، واختار مكاناً بسيطاً جداً وفي بلدة صغيرة لكي يولد فيها وهي بيت لحم.
كان عند المجوس إيماناً راسخاً بأن ولادة ملك اليهود قد تمت، فسؤالهم كان بلغة الواثق وليس المتشكك. وما يريدونه كان مشاهدته بالعيان. لقد آمنوا وصدقوا ولادته بعقولهم وقلوبهم، وكان إيمانهم حياً، وأرادوا الآن مشاهدته بعيونهم. لقد تركوا بلادهم بالإيمان على رجاء أن يكللوا رحلتهم بالعيان. وعلى مدى التاريخ، نجد أن رجال ونساء الإيمان كانوا مستعدين للتضحيات من أجل عقائدهم. وكثيرون قد بدأوا رحلتهم مع الله بالإيمان، ومشتاقين إلى رؤيته بالعيان، ورؤيته تحتاج إلى نقاء القلب، لأن الرب قد وعد بأن أنقياء القلب سينظرون إلى الرب وسيشاهدونه بعيونهم.
الإيمان هو مفتاح العلاقة مع الله، لأنه بدون إيمان لا يمكن إرضاء الله كما نقرأ في عبرانيين 6:11 "وَلَكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ".
2. ملك اليهود: سؤالهم يدل على ثقة بأنه يوجد طفل قد ولد، وأن هذا الطفل ليس مثل بقية الناس، بل هو ملك. نعم ملك. أجل يسوع هو ملك، وليس أي ملك، بل هو ملك الملوك ورب الأرباب. هو ملك الحياة. ملك الوجود.هو ملك ورب كل من يطلبه في أي مكان وزمان.
3. رأينا نجمه: النجم بالنسبة للمجوس كان الدليل الواقعي والعملي على ولادة الرب يسوع. فالنجم لم يكن أي نجم، بل نجمة، والضمير المتصل هنا، أي حرف الهاء، تعود إلى الطفل يسوع، أي الملك المولود. ان الله القدير خصص نجماً وحرّكه ليكون هادياّ في الطريق الى الباحثين عن رب المجد يسوع.
4. وأتينا لنسجد له: عرف المجوس هدفهم حتى قبل بداية رحلتهم، أرادوا أن يجدوا الملك المولود ليقدموا له حقه من العبادة والسجود. لاحظوا معي أن الكلمة اليونانية المستخدمة هنا هي بروسكونيساي προσκυνησαι وتعني سجود العبادة والصلاة.
يشتمل السجود دائماً على التضحية، وكان المجوس مستعدين لمثل هذه التضحية. فقد ضحوا براحتهم واستقرارهم وسافروا مسافات طويلة في الصحاري والوهاد والهضاب من أجل أن يلتقوا بالملك المولود يسوع المسيح له كل المجد.
العبادة المجانية لا قيمة لها، فالمجوس أولاً ضحوا براحتهم في بلادهم، ثم ضحوا في تحملهم لمشاق السفر الطويل وتكاليفه وخطورته. وهذا يتفق مع كلمة الله في صموئيل الثاني 24:24 حيث يقول الملك والنبي داود بوحي من الله "... لاَ أُصْعِدُ لِلرَّبِّ إِلَهِي مُحْرَقَاتٍ مَجَّانِيَّةً...". ونقرأ في رسالة رومية 1:12 "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ". أي أن أعظم هدية وأعظم تقدمة يمكن لأي واحد منا أن يقدمها لله هي الأنا، هي الذات. هي أن تقول لله: أملك على حياتي وعلى نفسي. أنا لست لذاتي بل لمن خلقني وصورني ودفع ثمن خطاياي بدمه الطاهر على الصليب.
إسأل نفسك: ماذا أرد للرب من أجل كل حسناته؟ الله يريدك أنت. الله يريد قلبك، فهو القائل: أعطني قلبك. الله يريدك أن تسير معه، وأن تبتعد عن الشر وطرقه الكثيرة، وأن تسير مع الله في طرقه الصالحة والمقدسة.
معاني هدايا المجوس: توجد رموز جوهرية في الهدايا التي قدمها المجوس
الذهب يرمز إلى مجد وملكوت المسيح. وهو عطية أو هدية تقدم للملوك، ويرمز للغنى والثروة. أي أن هدية الذهب تليق تماماً برب المجد. فالله يستحق أن نقدم له أغلى ما عندنا.
اللبان يرمز إلى لاهوت المسيح، فهو الله المتجسد. واللبان عادة يقدم كعطية للكاهن كي يرفعه لله.أي أن هذه الهدية تشير إلى كهنوت الرب يسوع ولاهوته. فالرب يسوع هو الله الذي نقدم له البخور الذي يرمز لعبادة الناس لربهم وخالقهم وإلههم. اللبان عبارة عن عصير شجرة يجفف ويصبح قاسياً حتى يستخدم بخوراً في عبادة الله. وعصارة قلوبنا هي محبة الله والصلاة لشخصه القدوس، فهو يستحق أفضل ما يمكن أن يخرج من قلوبنا وعقولنا، أي أن نعبده بالروح والحق.
المر يرمز إلى ناسوت المسيح، فالرب يسوع جاء بصورة إنسان ليموت على الصليب من أجل خطايانا. المر عطية تقدم للموتى، وقد ذكرت الكلمة 22 مرة في الكتاب المقدس وتشير إلى طيب أو عطر له رائحة زكية كان يستخدم في دهن وتكفين الموتى. وهذه إشارة إلى حقيقة تمت لاحقاً عندما مات الرب يسوع المسيح على الصليب لفداء البشرية جمعاء والتكفير عن خطايا العالم.
حكمة المجوس: عرفنا أن أحد معاني كلمة المجوس هي الحكماء، والسؤال هنا: أين نجد الحكمة في قصة المجوس؟
في تأملنا لقصة المجوس في الإنجيل المقدس، نجد أن حكمة المجوس قد تجسدت أولاً في قرارهم السفر بحثاً عن يسوع. فلقد أدركوا أن الله يعمل حتى من خلال حركة النجوم في الفضاء. وبدأوا رحلتهم في البحث عن الملك المولود دون معرفة الكثير من التفاصيل. وتجسدت حكمتهم ثانياً في سجودهم وعبادتهم وصلاتهم للطفل المولود، أي أنهم أدركوا أنهم كانوا في محضر الله المتجسد، الله الذي خلق الإنسان والقادر أن يأخذ أيضاً صورة إنسان بدافع من محبته لهذا الإنسان. كذلك ظهرت حكمة المجوس في عطائهم وتقدماتهم الثمينة للملك: فقد فتحوا كنوزهم وقدموا له الذهب واللبان أي البخور والمر أي الطيب أو العطور. وأخيراً ظهرت حكمة المجوس في طاعتهم لوحي الله وعدم رجوعهم إلى الملك هيرودس الذي كان يخطط لقتل الطفل المولود. كانت طاعة الله بالنسبة لهم أعظم وأهم من طاعة ملكٍ أرضي، وكأن لسان حالهم يقول: "ينبغي أي يطاع الله أكثر من الناس".
واليوم ينظر الله إلينا متوقعاً منا أن نقتدي بحكمة المجوس: ما نعرفه اليوم عن الرّب يسوع يفوق جداً ما عرفه المجوس، ورغم معرفتهم المتواضعة جاؤوا باحثين عنه. وبحثهم يتحدانا بقوّة: هل نبحث عن يسوع المخلص، أم نقتنع بما نحن عليه. إن أموال العالم وديانات العالم وكل مباهج العالم لا قيمة لها مقابل معرفة الله الحقيقي الذي تجسد في شخص الطفل المولود، يسوع المسيح. الله يريدنا أن نأتي إلى يسوع، فهو ملك الحياة، وأن نسجد له بخشوع مقدمين له قلوبنا وحياتنا، ومن ثم نكمل طريق حياتنا في السير حسب إرشاده ووصاياه وليس حسب وصايا الناس.
ما هي بعض الدروس التي نتعلمها من المجوس:
1. يعمل الله في التاريخ والعالم حتى تصل بشارة الإنجيل إلى كل إنسان مهما كان بعيداً عنه: استخدم الله نجماً سماوياً لإرشاد المجوس في بلاد فارس إلى الملك والمخلص الوحيد الرب يسوع المسيح. فالله يحب كل إنسان مهما كانت الأمة أو العرق أو الشعب الذي ينتمي إليه. فالله يريد أن يعرفه الجميع حتى يخرجوا من ظلمة الخطية وظلمة ديانات العالم إلى نور الإنجيل.
كان المجوس علماء فلك، فكلمهم الله باللغة التي يفهمونها، وهي لغة النجوم. فالله يعرف كل إنسان، وهو يتوقع من الكنيسة اليوم أن تخاطب العالم بلغة يفهمها العالم لكي يعرف الناس عن حق الله ومحبته لهم. في الواقع إن الله تجسد وجاء إلى العالم بصورة إنسان حتى يستطيع العالم أن يفهم إرادة الله. تكلم الله بلغة الناس، وعاش حياة الناس، وكل ذلك من أجل خير الناس.
2. يريد الله منا أن نطلبه باجتهاد: قطع المجوس مئات الأميال بحثاً عن الطفل المولود، وكلفتهم الرحلة المال والوقت واحتمال مخاطر ومشاق السفر. وهذا درس لنا في أن نطلب الله وحقه باجتهاد ومثابرة. في حين أن علماء الشريعة في القدس الذي كانوا منخرطين في ممارسة الطقوس الدينية، لم يكلفوا أنفسهم السفر عدة أميال لرؤية الطفل المولود. لقد عمتهم الطقوس وحجبت عنهم رؤية الطفل يسوع، أي الله المتجسد من أجلهم. طلب الله يعني أن يكون لكل واحد منا علاقة يومية مع الله، وهذه العلاقة أساسها الصلاة كل يوم وقراءة الإنجيل المقدس، والعيش بحسب وصايا الله.
3. كل واحد منا يحتاج إلى السجود للرب يسوع: عبادة الله ليست أمراً إجبارياً، بل هي امتياز واختيار نابع من إرادة حرة. جاء المجوس بإرادتهم طالبين الرب يسوع ليسجدوا له ويقدموا هداياهم. الله لا يفرض علينا الصلاة والصوم، بل الله يخبرنا أنه شيء رائع وامتياز عظيم أن نأتي إليه مصلين له ومقدمين له أثمن ما عندنا. نحن نعبد الله عندما نعطي عشورنا وتقدماتنا. نحن نعبد الله عندما نصرف كل يوم وقتاً في الصلاة وقراءة الإنجيل. نحن نعبد الله عندما نطيع وصاياه ونحبه من كل كياننا.
4. نتعلم من المجوس الحاجة الملحة لكلمة الله حتى لا نضل الطريق: لاحظوا معي في القصة أن المجوس عرفوا عن الطفل المولود من خلال نجمة في السماء، ولكنهم لم يجدوه بالضبط إلا بعد أن استمعوا لكلمة الله كما وردت في نبوة ميخا 2:5 "أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ". عندما يضيع الواحد منا في مشواره في الحياة، فإنه بالتأكيد يحتاج إلى إعلان الله الجلي والواضح في الكتاب المقدس. فلا تسير في حلقة مفرغة، ولا تحاول أن تجد الحلول بنفسك. اقرأ كلمة الله وستجد الجواب الشافي لسؤالك.
5. نتعلم من المجوس أن كل إنسان يستطيع أن يجد ويعرف الله الحقيقي، كما وجده المجوس الغرباء. تخيلوا معي العقبات والحواجز الكثيرة التي كان على المجوس تجاوزها ليصلوا إلى يسوع: كانت أمامهم حواجز حضارية، فالمجوس جاؤوا من حضارة فارسية تختلف كلياً عن حضارة شعب الله القديم. وحواجز لغوية، فقد تكلموا اللغة الفارسية في حين ان لغة شعب فلسطين كانت الآرامية في الحديث والعبرانية في الصلاة وفي الكتابة. والحواجز الدينية، فقد كان المجوس من أتباع ديانة زرادشت، وشعب الأرض يعرفون الله الحقيقي، والحواجز الجغرافية فقد كان على المجوس قطع مئات الأميال ليصلوا الى مرادهم. بالإضافة إلى الملك الشرير هيرودس ورجال الدين غير المبالين. لم يكن الأمر سهلاً عليهم حتى يصلوا إلى يسوع، ومع ذلك تخطوا كل العوائق ووجدوه. لذلك مهما كانت خلفيتك اللغوية والحضارية والدينية، اعلم ان الله يريد لك الأفضل، يريد لك الحياة. أنت تستطيع أن تتحدى الصعاب وتتخطى العوائق، فخلاصك الأبدي وغفران خطاياك وحياتك الأبدية هي أثمن ما في الوجود.
خاتمة: ماذا نستطيع اليوم أن نقدم للطفل المولود يسوع؟ عندما يولد طفل، نأخذ هدايا ونذهب للتهنئة بالمولود. فما هي الهدية التي أحضرتها اليوم لمولود بيت لحم؛ هل يمكنك أن تقدم له حياتك قائلاً: تعال يا رب وطهّر قلبي من كل نجاسة وشر وإثم واعطني غفران الخطايا والحياة الأبدية؟ وبعد أن تعطي حياتك لله أعطِ حياتك للآخرين: أعط الحب العملي لأسرتك ولأصدقاءك ولإخوتك وأخواتك في الكنيسة، ولكل إنسان قد يضعه الله في طريقك. اخرج من قلبك كل حقد وكراهية ورفض للناس، واقبل الجميع كما يقبلهم الله. فمن أنت حتى ترفض الناس الذين قبلهم الله؟! اغفر لمن أساء إليك لكي يغفر لك الله. فالذي تزرعه تحصده. ازرع محبة لتحصد محبة، وازرع غفران ومسالمة لتنال غفران الله ورحمته في حياتك كل يوم.
في الميلاد: فرح المجوس فرحاً عظيماً جداً وقدموا كنوزهم لله. لذلك إسأل نفسك اليوم: هل أريد أن أفرح اليوم بفرح السّماء الدّئم أم فرح العالم الوقتي والزائل؟ تعال وقدم نفسك لله واطلب منه أن يطهرك بدم المسيح وأن يمنحك الحياة الأبدية. اطلب منه بصدق أن يدخل إلى حياتك وأن يخلق منك إنساناً جديداً.