إن هذا السؤال قد سمعته مرارًا وتكرارًا، فكثيرًا ما نسمع حولنا تعابير تقول أن راعي الكنيسة هو مسيح الرب، وتعطي انطباعًا أن له مكانة مميزة عن غيره من رعيته المؤمنين. في هذا المقال سنتناول هذا الموضوع، ونحلل شعار المسحاء في العهد القديم؛ وما هو الاختلاف بين الخادم في العهد القديم؛ وبين الخادم في العهد الجديد.
إن كلمة مسيح وجمعها مسحاء، تأتي من أصل الفعل "مشح" بالعبري، أي "مسح" بالعربي، كناية عن اختيار الله لشخصية معينة؛ يمسحه بالدهن أو الزيت المقدس، ليقوم بخدمة الله. إن المسح بالزيت شيء معروف حتى قبل توراة موسى؛ مثل يعقوب الذي مسح نفسه بالدهن، بعدما اختبر وجود الله في المكان الذي كان فيه وشعر بهيبة الله عليه (تكوين ٢٨: ١٨). وفي سياق أسفار التوراة، تتكلم أيضًا عن المسح الحرفي بالزيت؛ فأول من مُسح، كان هارون الكاهن العظيم " ...الذي مسح بالدهن المقدس" العدد ٣٥: ٢٥. وبعد التوراة، دعيت كلمة "مسيح" بالخصوص على الملوك الذين اختارهم الرب، كما قلنا في المقال السابق.
مفهوم المسحة في العهد الجديد:
في العهد الجديد، المَسْحْ هو ليس مسح حرفي بالزيت، بل باستقرار قوة الله وعلامته الإلهية على إنسان. ولكي نفهم المسحة في العهد الجديد، يجب أن نبدأ من أشعياء؛ حيث يسميه البعض نبي العهد الجديد. فهو قدم المسح دون دهن أو زيت بشكل حرفي؛ لكن باستقرار قوة الله على شخص بالروح القدس واختبار إلهي؛ وربما جيد أن نستعرض أحد النصوص النبوية الهامة التي تنبأت عن المسيح المنتظر للعهد الجديد، القائلة:
" روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين.." أشعياء ٦١: ١.
يجب أن ندرك أن هذا النص، بصورة مصغرة، يتكلم عن مسح الرب لأشعياء أيضًا؛ لكن دون دهن حرفي، بل باعتبار أنه تقابل مع السيد رب الجنود الجالس على العرش؛ فطهر شفتيه وقلبه، وأفرزه لعمل معين، أي مسحه (أشعياء ٦). لذلك نرى أن المسيح أيضًا كإنسان، لم يمسح بدهن حرفي؛ بل بالحضور الإلهي عليه؛ حيث استقر عليه الروح القدس بقوة، بهيئة حمامة، وسمع صوت من السماء قائلاً: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (متى ٣: ١٧).
لذلك العهد الجديد يعتبر جميع المؤمنين مسحاء الله، لأن الروح القدس ختمهم ليكونوا مختاري الله وأولاده:
" ٢٠ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَكُمْ مَسْحَةٌ مِنَ الْقُدُّوسِ وَتَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ... ٢٧ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَالْمَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ، وَلاَ حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ، بَلْ كَمَا تُعَلِّمُكُمْ هذِهِ الْمَسْحَةُ عَيْنُهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهِيَ حَقٌّ وَلَيْسَتْ كَذِبًا. كَمَا عَلَّمَتْكُمْ تَثْبُتُونَ فِيهِ." ١ يوحنا ٢.
سياق الآيات السابقة، يتكلم عن إناس يهود حاولوا أن يضلوا المؤمنين ويحرفوهم عن مركزية المسيح. ففي هذه الأعداد، يؤكد الوحي على أن المؤمن الذي عنده مسحة الروح القدس، يستطيع أن يميز الحق من الكذب؛ ولا يحتاج إلى أي شيء سوى الالتساق براعيه وقائده، يسوع المسيح.
فيوحنا الذي ساهم في تشكيل الهوية المسيحية، أبرز مركزية اتكال المؤمن على الروح القدس وتبعيته المباشرة للمسيح. لذلك ليس دور رعاة الكنائس قيادة المؤمن روحيًا (بشكل شخصي)، بل مساعدة المؤمن لتأسيس علاقة صحية مع قائده وراعيه يسوع المسيح؛ وتصدر العمل الجماعي للجسد. فأي رعاة يحاولون لعب دور: وساطة بين المسيح والمؤمن؛ قيادة لحياة المؤمن مما يجعله يتكل عليهم؛ قناة البركة لحياة المؤمن؛ وسيط غفران خطايا المؤمن...إلخ؛ جميع هذه ليست تعاليم من الله. لذلك حذر وعلم المسيح التلاميذ ضد روح الوساطة بين المؤمن وربه:
" ٩ وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَبًا عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. ١٠ وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ الْمَسِيحُ. ١١ وَأَكْبَرُكُمْ يَكُونُ خَادِمًا لَكُمْ." متى ٢٣.
لهذا السبب، يحذر يوحنا من هذا التعليم؛ مؤكدًا أن كل مؤمن هو مسيح للرب؛ ومرتبط بشكل مباشر بالمسيح راعيه. فالمسيح هو من مسح كل إنسان آمن به، وختمه بالروح القدس (أفسس ١: ١٣ و٤: ٣٠)، "وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً للهِ أَبِيهِ.." (رؤيا ١: ٦)؛ وهنا الآية تخص بالذكر الحقبتين التي رأيناها في مسحاء الرب في القديم – المك والكاهن. لذلك من الصحيح أن أقول أن راعي الكنيسة هو مسيح الرب، لكنه ليس مسيح الرب بمفهوم العهد القديم أبدًا، وذلك من جانبين:
الأول: مسيح الرب كان مسيح واحد، يقود شعب ليسو مسحاء الرب. أما الراعي، فهو مسيح الرب كراعٍ، لكنه يقود مسحاء للرب مثله تمامًا. فليس هو وحده مسيح الرب، بل كل شعب الرب مسحاء الرب؛ وليس له أي امتياز أعلى منهم أبدًا. فالذي يمس مسيح الرب، الراعي، يمس المسيح شخصيًا؛ لكن أيضًا خادم الرب، الراعي، الذي يمس أو يجرح أحد مؤمنيه، يمس المسيح شخصيًا (متى ١٨: ٦).
الثاني: آلية المحاسبة لمسحاء العهد القديم تختلف اختلافًا جذريًا عن العهد الجديد؛ ففي العهد القديم كان الله يحاسب مسحائه بنفسه، يواجههم بخطاياهم، يؤدبهم، ويفضحهم أما جميع الشعب حينما يخطئون. فعندما أخطأ هارون وداود مثلاً، حاسبهم الله بشكل مباشر على خطيتهم وكشفها أمام الشعب والأجيال القادمة. أما في ظل العهد الجديد، فالله اختار أن يحاسب الشيخ أو القس بواسطة الكنيسة؛ مما يثب تلك الفكرة عينها، أنه ليس هو وحده مسيح الرب، بل كل شعب الرب مسحاء:
" ١٩ لاَ تَقْبَلْ شِكَايَةً عَلَى شَيْخٍ إِلاَّ عَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ. ٢٠ اَلَّذِينَ يُخْطِئُونَ وَبِّخْهُمْ أَمَامَ الْجَمِيعِ، لِكَيْ يَكُونَ عِنْدَ الْبَاقِينَ خَوْفٌ.” ١ تيموثاوس ٥.
وهنا لا يتكلم عن إنسان متقدم في العمر فحسب، بل يتكلم عن شيوخ يعلمون ويعظون في الكنيسة؛ أي قسوس (عدد ١٧).
فبعض الخدام والرعاة، ينجذبون لتبني نموذج معين لقادة في العهد القديم كموسى أو كداود مسيح الرب؛ ويحاولون تطبيقها على أنفسهم. لكنهم دون أن يشعرون، يكونوا قد تبنوا شريحة مختارة فقط من النظام، وليس النظام كله. أي أنهم يقتطعون حقيقة الله الذي كان يحاسب موسى وداود بشكل مباشر، كما قلنا؛ وفي تلك الحالة، يكون الرعاة قد وضعوا أنفسهم فوق المسائلة والمحاسبة؛ وهم في ضلال كبير؛ وعلى الأرجع سيقودوا الكنيسة للشتات والانقسام. أما في العهد الجديد، جميع شعب الرب مسحاء؛ لذلك يجب أن يكون الجميع، ومن ضمنهم الراعي، خاضعين لبعضهم البعض. بل أكثر من ذلك، كما قالت الكلمة أعلاه، عندما يوبخ القِسْ، يكون عند الباقين خوف. أي أن مخافة الرب تبدأ من الخدام إلى الرعية، وليس بالعكس؛ لأنها لا تُعلَّم عن المنبر، بل تطبَّق على الراعي، فتنتقل للرعية بقوة وشهادة الروح القدس.