أطلق مرصد أوروبي متخصّص ناقوس الخطر حيال تنامي العنف والكراهية ضدّ المسيحيين في القارة العجوز، محذّرًا من انتقال الظاهرة من مستوى الاعتداء على الكنائس والممتلكات إلى مستوى أخطر يتمثل في الاعتداءات الجسدية المباشرة، وحالات القتل والحرق المتعمّد لدور العبادة.
بحسب التقرير السنوي لعام 2025 الصادر عن مرصد التعصّب والتمييز ضدّ المسيحيين في أوروبا (OIDAC Europe)، والذي عُرض رسميًا في البرلمان الأوروبي في بروكسل في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، تمّ توثيق 2211 جريمة كراهية ضدّ المسيحيين في أوروبا خلال عام 2024. ورغم أن الرقم الإجمالي أقل قليلاً من عام 2023، إلا أن معدّي التقرير يؤكدون أنّ طبيعة الجرائم أصبحت أكثر عنفًا وخطورة، إذ لم تعد تقتصر على تخريب الصلبان والكتابات المسيئة على الجدران، بل باتت تشمل اعتداءات جسدية مباشرة على المؤمنين وهجمات منظمة على الكنائس.
يشير التقرير إلى ارتفاع واضح في عدد الاعتداءات الجسدية على المسيحيين، حيث سُجلت 274 حالة اعتداء شخصي في عام 2024 مقارنة بـ232 حالة في السنة التي سبقت، أي بزيادة ملحوظة في الهجمات التي تستهدف الأشخاص لا الحجر فقط. كما يجري الحديث عن زيادة حادة في حوادث الحرق المتعمّد ضد الكنائس والمواقع المسيحية، إذ تمّ توثيق 94 هجوم حرق خلال العام ذاته، أي ما يقارب ضعف ما تم تسجيله في العام الماضي. ويُلفت إلى أن ثلث هذه الحرائق تقريبًا وقع في ألمانيا وحدها، ما دفع مسؤولين كنسيين هناك للتحذير من أن “كل المحرّمات تمّ تجاوزها” في التعامل مع قدسية الكنائس.
ويذكر التقرير أن الدول الأكثر تسجيلًا لهذه الجرائم هي فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا والنمسا، مع الإشارة إلى أنّ الأرقام قد تكون أعلى من الموثّق فعليًا بسبب إحجام بعض الضحايا عن التبليغ أو تصنيف بعض الحوادث تحت عناوين عامة مثل “تخريب ممتلكات عامة”. وفي فرنسا، يربط التقرير بين عدد من الحوادث وبين خلفيات متطرّفة، من بينها اعتداءات استلهمت خطاب تنظيم “داعش”، وأعمال تدنيس للمقابر والكنائس ترافقها شعارات معادية للمسيحية، في حين تشهد ألمانيا تزايدًا مستمرًا في جرائم الكراهية ضد المسيحيين بحسب الإحصاءات الرسمية نفسها.
ولا يقتصر عرض المرصد على الأرقام الجافة، بل يستعرض حوادث بعينها هزّت الرأي العام: من بينها مقتل راهب كاثوليكي مسنّ في دير بإسبانيا خلال هجوم عنيف أصاب عددًا من الرهبان، وهجوم مسلّح على كنيسة في إسطنبول أثناء القداس بمشاركة مؤمنين محليين وأجانب، إضافة إلى حرائق مدمّرة طالت كنائس تاريخية في فرنسا ودول أخرى، ما أدى إلى خسائر روحية وتراثية لا تُقدّر بثمن.
إلى جانب العنف الجسدي والمادي، يركّز التقرير على ما يسمّيه “القيود القانونية والاجتماعية” المتزايدة على حرية التعبير والإعلان عن الإيمان المسيحي في الفضاء العام. ويعرض قضايا لأشخاص حوكموا أو جرى التحقيق معهم بسبب صلاتهم الصامتة قرب عيادات الإجهاض، أو بسبب نشر آيات كتابية أو مواقف مستمدّة من التعليم المسيحي في قضايا الأسرة والجنس والزواج. كما يتوقّف عند قضايا بارزة مثل محاكمة نائبة فنلندية بتهمة “خطاب الكراهية” بسبب نشرها نصًا كتابيًا ونقدها مشاركة الكنيسة الرسمية في فعالية لمثليي الجنس، رغم أن القضية تدور في إطار نقاش لاهوتي وأخلاقي داخل المجتمع المسيحي نفسه.
التقرير يسلّط الضوء أيضًا على أحكام وقرارات قضائية في عدد من الدول الأوروبية تمسّ مباشرة حرية المؤسسات المسيحية في إدارة شؤونها الداخلية، من مدارس وأخويات ورعايا، مثل سحب التمويل من مدرسة كاثوليكية بحجة “التمييز”، أو التدخّل في قواعد العضوية في أخوية دينية، أو تقييد حق أحد الوالدين في تربية أبنائه تربية مسيحية بسبب خلافات عائلية. ويرى المرصد أن هذه القرارات تصدر أحيانًا باسم “الحياد” أو “مكافحة التمييز”، لكنها في الواقع تضيف أعباء جديدة على حرية الكنيسة والمؤمنين.
في قراءة أوسع للواقع، يستحضر التقرير تعبير “الاضطهاد المهذّب” الذي يستخدمه البابا فرنسيس لوصف أشكال الضغط الناعمة على المؤمنين في المجتمعات الغربية، حيث لا تُغلق الكنائس بالقوة ولا يُسجن المؤمنون بالجملة، لكن يُمارَس عليهم ضغط ثقافي وإعلامي وتشريعي يدفع كثيرين إلى إخفاء إيمانهم أو تجنّب الحديث عنه خوفًا من الوصم أو الملاحقة القانونية أو السخرية.
أمام هذه المعطيات، دعت لجنة أساقفة الاتحاد الأوروبي إلى استحداث منصب منسّق أوروبي لمكافحة الكراهية ضدّ المسيحيين، على غرار المناصب المخصصة لمواجهة معاداة السامية ومعاداة الإسلام، مؤكدة أن الهدف ليس المنافسة في “دور الضحية”، بل ضمان أن يحظى المسيحيون بالحماية ذاتها حين يكونون هم المستهدفين. كما يشدّد التقرير على ضرورة أن تعيد الحكومات الأوروبية ووسائل الإعلام النظر في طريقة تناولها للقضايا الدينية، وأن تتجاوز ما يصفه المرصد بـ“الأمية الدينية” تجاه المسيحية، والتي تؤدي في كثير من الأحيان إلى تشويه معنى الحرية الدينية والتعبير المؤمن.
من زاوية مسيحية مشرقية، قد يبدو الحديث عن “اضطهاد” في أوروبا أقلّ مأساوية من المشهد الدموي الذي اختبرته الكنائس في العراق وسوريا ومصر ونيجيريا وغيرها، حيث تعرّض المؤمنون للقتل والتهجير وتدمير القرى والكنائس. لكن التقرير يذكّر بحقيقة أن الضغط على المسيحيين يأخذ أشكالًا مختلفة بحسب السياق: ففي الشرق الأوسط وأفريقيا غالبًا ما يكون تهديدًا وجوديًا مباشرًا، فيما يتجلّى في أوروبا في صورة هجمات على الكنائس، واعتداءات فردية، وتهميش ثقافي وتشريعات تضيّق مساحة الإيمان في المجال العام.
بهذا المعنى، لا يساوي التقرير بين المعاناة هنا وهناك، لكنه يرسم صورة أوسع لاتجاه عالمي مقلق: تقلّص مساحة حضور الإيمان المسيحي، سواء تحت ضربات العنف المسلّح في بعض المناطق، أو تحت ضغط القوانين والثقافة السائدة في مناطق أخرى، ما يطرح على الكنائس تحديًا مشتركًا في الدفاع عن كرامة الإنسان وحقّه في العيش والتعبير عن إيمانه بحرية.
