في تطوّر جديد يضع الحضور المسيحي في قلب النقاش الأمني في المنطقة، شدّد وزير الدفاع اليوناني نيكوس ديندياس على أن حماية المسيحيين في الشرق الأوسط قضية ذات أولوية قصوى لليونان، مؤكدًا أن المسيحيين في المشرق «ليسوا مجرّد أقلية، بل شعوب أصليّة تشكّل جزءًا من الاستمرارية التاريخية والنسيج الاجتماعي» في دول مثل لبنان وسوريا. جاء ذلك خلال لقائه في أثينا بوزير الدفاع اللبناني ميشال منسّه (Michel Menassah) يوم الخميس 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 في مقرّ وزارة الدفاع اليونانية.
اللقاء بين الوزيرين عُقد أولًا على مستوى مغلق، ثم توسّع إلى اجتماعات بين الوفدين في قاعة «إيوانيس كابوديسترياس» بوزارة الدفاع، بمشاركة كبار قادة الأركان من الجانبين. وتركّزت المباحثات، بحسب البيان الرسمي لوزارة الدفاع اليونانية، على قضايا الأمن الإقليمي ودور اليونان في تعزيز قدرات الجيش اللبناني، إلى جانب ملف قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) التي تشارك فيها اليونان بوحدة بحرية.
ديندياس أوضح في كلمته المشتركة أن بلاده لا تكتفي ببيانات التضامن، بل تنتقل إلى خطوات عملية، معلنًا أن اليونان ستتبرع بسلسلة من الآليات المدرّعة وناقلات الجند إلى الجيش اللبناني، وأن هذه الآليات «جاهزة فعلًا»، وسيتم نقلها إلى مرفأ بيروت على متن سفينة إنزال تابعة للبحرية اليونانية خلال الأيام المقبلة. كما أكد استمرار برنامج التعاون بين الأكاديميات العسكرية اليونانية والجيش اللبناني، من خلال استقبال ضباط لبنانيين في دورات تدريبية متخصّصة.
لكن البعد الذي حوّل هذا اللقاء من مجرّد اجتماع دفاعي ثنائي إلى خبر يهمّ الأوساط الكنسية هو تأكيد ديندياس المتكرر أن حماية المسيحيين في الشرق الأوسط جزء من رؤية اليونان الإستراتيجية للمنطقة. ففي كلمته الرسمية، شدّد على أن بلاده «تدين كل فعل عنف يستهدف الحريّة الدينية في الشرق الأوسط»، وأن اليونان عبّرت مرارًا عن دعمها للمجتمعات المسيحية ولكل الأقليات الدينية التي تواجه تهديدات أو تضييقًا بسبب انتمائها.
الوزير اليوناني ذهب أبعد من ذلك في توصيف وضع المسيحيين، معتبرًا أن الحديث عنهم كـ«أقلية» لا يعكس حقيقتهم التاريخية، فقال إن المسيحيين في الشرق الأوسط «سكان أصليون» وعنصر أساسي في تاريخ المنطقة ونسيجها الاجتماعي، لا سيما في لبنان وسوريا والشرق الأوسط الأوسع، وأن المسّ بهم هو مسّ بالتوازن الحضاري بأسره.
وفي هذا الإطار، ربط ديندياس بين الخطاب السياسي والتحرّك الكنسي حين أكّد أن اليونان تدعم بقوة البطريركيات اليونانية الأرثوذكسية في المنطقة، وعلى رأسها بطريركية أنطاكية وسائر المشرق، مشيرًا إلى مبادرات ملموسة قامت بها أثينا خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا التعاون مع جامعة البلمند في شمال لبنان. وذكّر أنه، منذ كان وزيرًا للخارجية، عمل على توطيد هذا التعاون الأكاديمي والثقافي، وأنه عاد لزيارة الجامعة بصفته وزير دفاع، حيث استقبله بطريرك أنطاكية يوحنا العاشر، في إشارة رمزية إلى الربط بين البعد الدفاعي والبعد الروحي في سياسة اليونان تجاه المشرق.
هذه التصريحات لا تأتي من فراغ؛ فديندياس سبق أن صرّح في كانون الأول/ديسمبر 2024 بأنّ «من واجب اليونان والاتحاد الأوروبي حماية السكان المسيحيين في سوريا والشرق الأوسط الأوسع»، خلال لقاء مع سفراء دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعكس توجّهًا مستمرًا في الدبلوماسية اليونانية، وليس مجرّد موقف ظرفي مرتبط بزيارة لبنانية. كما شدّد في زيارات أخرى للبنان عام 2025 على «الاهتمام الكبير بوضع وحماية السكان الأرثوذكس في الشرق الأوسط» وعلى استعداد القوات المسلحة اليونانية لمساندة الجيش اللبناني.
من الجانب اللبناني، شدّد الوزير ميشال منسّه، بحسب تغطيات إعلامية لبنانية ومتخصّصة، على أهمية الدور الذي يلعبه الجيش اللبناني كضامن لوحدة البلاد واستقرارها، رغم الأزمات الاقتصادية والضغوط الأمنية التي يواجهها لبنان منذ سنوات. وأشاد بالعلاقات التاريخية بين لبنان واليونان، ليس فقط على المستوى السياسي، بل أيضًا عبر الرابط الروحي والثقافي الذي يمثّله وجود الجماعات الأرثوذكسية والمسيحية عامة في البلدين.
بالنسبة للمسيحيين في المنطقة، يحمل كلام ديندياس بعدًا رمزيًا مهمًا؛ فأن يُقال على لسان وزير دفاع في دولة عضو في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو إن المسيحيين في المشرق «شعوب أصلية» وليسوا «أقليّة عابرة»، يعني إعادة الاعتبار إلى هويةٍ كثيرًا ما حاولت الحروب والنزاعات تهميشها أو اختزالها في خانة «الأقليات الهشّة». كما أن ربط هذا الكلام بقرارات عملية مثل دعم الجيش اللبناني، والمساهمة في تجديد تفويض اليونيفيل، والتعاون مع جامعة البلمند والبطريركيات الأرثوذكسية، يعطي انطباعًا بأن اليونان تحاول أن تجعل من خطابها حول حماية المسيحيين سياسةً ذات أدوات ملموسة على الأرض.
في السياق الأوسع، يأتي هذا اللقاء في وقت يعيش فيه مسيحيو الشرق الأوسط تحت ضغط مركّب: نزيف هجرة مستمر، صراعات مسلّحة، أزمات اقتصادية، وتخوّف من تغييرات ديمغرافية عميقة في دول مثل لبنان وسوريا والعراق، فيما تواجه مجتمعات مسيحية أصغر في فلسطين والأردن تحديات البقاء في أرض الآباء والأجداد. من هنا، يُقرأ خطاب ديندياس في بعض الأوساط الكنسية على أنه تذكير بأنّ بقاء المسيحيين في المشرق ليس شأنًا كنسيًا داخليًا فحسب، بل قضية سياسية وأمنية ذات أبعاد دولية.
في ضوء هذه التطورات، يُنتظر أن تتابع الكنائس الشرقية – وخاصة في لبنان وسوريا – هذا المسار اليوناني عن كثب، لجهة إمكان تحويله إلى شراكات أوسع في مجالات التعليم، والتنمية المحلية، ودعم المبادرات التي تثبّت العائلات المسيحية في أرضها، بدل الاكتفاء ببيانات التضامن من بعيد. كما أن هذا التوجّه قد يفتح أمام المسيحيين في المنطقة نافذة جديدة للتواصل مع العواصم الأوروبية من خلال أثينا، الدولة ذات الجذور الأرثوذكسية العميقة والحضور الفاعل في الاتحاد الأوروبي.
هكذا، يتحوّل لقاء أثينا في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 بين وزيري الدفاع اليوناني واللبناني من مجرّد اجتماع حول الأمن والتسليح، إلى إشارة سياسية وروحية مفادها أن الحضور المسيحي في الشرق الأوسط لا يزال حاضرًا على طاولة القرار، وأن الدفاع عن هذه الجماعات بوصفها «سكانًا أصليين» هو دفاع عن وجه المنطقة نفسه، وعن التعدّد الذي شكّل لقرون طويلة علامة غنى في هذه البقعة من العالم.
