بعد الإعلان عن نتائج الإنتخابات الرئاسية في تونس: "الإنتلجنسيا التونسية" خارج مسار التاريخ

ظهرت هذه الطبقة بمعناها الاجتماعي في بولندا بداية، خلال عصر تقاسمها. وقد اُستعير المصطلح من جورج هيغل في أربعينيات القرن التاسع عشر لوصف فئة متعلمة ومهنية من البرجوازيين الوطنيين الذين أصبحوا قادة روح
23 سبتمبر 2019 - 13:42 بتوقيت القدس

مصطلح النخبة المثقّفة أو الإنتلجنسيا هو مصطلح نشأ في القرن التاسع عشر في بولندا على يد الفيلسوف كارول ليبلت في كتابه الذي أصدره سنة 1844 تحت عنوان "في حب الوطن"، وقد إستشرى هذا المصطلح شرقا مع الكتاب الروس وغربا في أوروبا الغربية وأمريكا.

أما عن ماهية النخبة فهي مجموعة من الأفراد ذات مستوى أكاديمي وثقافي عالي تشكل
طبقة إجتماعية تدفع بالشعب إلى التقدم عن طريق تأطيره وتشكيل فكره وتوجيه آراءه بإنارة ما خفي عنه وتبسيط ما تعقّد في ذهنه من مفاهيم وإشكاليات. فإذا ما إعتبرنا مثلا أنّ الشعب هو عبارة عن جسد فإن الإنتلجنسيا أو النخبة تكون فيه بمنزلة العقل المدير لبقيّة الأعضاء والذي يحتوي على ملكات: كملكة التحليل، وملكة التخييل وملكة التأليف وغيرها.. هذا يعني أنه إذا كانت النخبة نائمة، متكاسلة، سكرانة أو راكضة وراء أخيلة سراب ما.. يدخل الشعب في حالة من الفوضى مبنية على أساس ليبيدي/عاطفي وليس على أساس عقلانيّ.

بعد الإعلان عن نتائج الإنتخابات الرّئاسيّة السّابقة لأوانها في تونس. رأينا الدّهشة تعلو وجوه الكثرين في تونس من الذين يقدمون أنفسهم أنهم من الإنتلجنسيا بل ويتفاخرون كونهم منها ويحتقرون من يهاجمها أو يعاديها أو حتى الذي يختلف معها.

من هم طبقة الإنتلجنسيا في تونس؟ هم مجموعة من الأفراد يتكونون من صحافيين وإعلاميين ومحامين ونشطاء حقوق إنسان وسياسيين.. منهم من كان مختبأ في عهد بن علي لا نسمع له صوتا ومنهم من كان معه بل من مستشاريه ومنهم من عارضه معارضة إتسمت بالطفوليّة الساذّجة والمكبلة بنزعة إديولوجية إتسمت بدونكيشوتية حالمة. أغلبية هذه الوجوه التي تصدع رؤوس التونسيين بأصواتها العالية والجوفاء في المنابر الإعلامية ليس لها أي منتوج أدبي أو فكري يذكر بعضها كتب في الماضي وبعضها لا أحد يعرف لها فكرا. البعض منها من المغضوب عليهم في مجالهم الأكاديمي والبعض الآخر أصبح "كرونيكور" في هذا البرنامج أو ذاك عن طريق معارفه وعلاقاته مع رجال أعمال نافذين في مجال الإعلام، خدمة منهم لأجندة إعلامية معيّنة.

كتونسيّ قبل كلّ شيء وكمراقب عن كثب لما يحدث في الساحة السياسية في علاقة مع الشارع وردّات فعله على مختلف صفحات التواصل الإجتماعي أستطيع أن أقول بكلّ ثقة مشبعة بيقين تام أن الإنتخابات الرئاسيّة عرّت هذه النخبة المثقفة في تونس وأسقطت عنها آخر ورقة توت.

إذا ما عدنا إلى الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل سنجده يشرح لنا في كتابه "فينومينولوجيا الروح" مصطلح "روح الشّعب" وهو اللاوعي الجمعي لشعب ما والذي ينزع دائما نحو التحرّر. فالتّاريخ البشري حسب هيغل ليس سوى سيرورة نحو تحرّر شامل ستصل إليه البشرية يوما ما عندما يرتفع وعيها بوجودها و قدرتها على الفعل وتغيير مسار التاريخ. هنا تجدر الإشارة أن هيغل كان ديالكتيكيا وليس مثاليا كما إتهمه البعض خاصة منهم الماركسيين.

الفكرة المغيرة لتاريخ شعب ما والمنبثقة من لا وعيه قد لا تصدر حتميا من نخبته بل تستطيع أن تصدر من الطبقات الإجتماعية السفلى كالبروليتاريا المنسحقة. هذا التحرر حسب هيغل قد لا يأخذ خطّ سير مستقيم بل في أغلب الحالات ما يمرّ بأوقات فشل ذريعة في تاريخ شعب. طريق التحرّر هو طريق ممتلئ من الخيبات والإنهزامات. طريق قوامه الفشل المؤسس للنجاح. تماما مثل بروفات المسرح حيث يتصارع الممثلون مع أنفسهم و مع رؤية المخرج ويفشلون مرارا وفي كل فشل يراكمون خبرة تمكنهم من النجاح في النهاية في تجسيد أدوارهم وإكتساب خبرة تمكنهم من الإرتقاء بمستواهم الفني والوجودي. هذا هو الفرق بين الشعوب العظيمة والشعوب المتخلفة، إذ أنّ هذه الأخيرة آثرت راحة الدكتاتوريّة بينما فضّلت الشعوب العظيمة المشي حافية في طريق الحرّية المفروش بأشواك الخيبات وزجاج الإنكسارات. من هنا نستطيع أن نقول أنّ الإنتلجنسيا المفتقرة لهذه الرؤية الإستشرافيّة لا يمكنها بأيّ حال من الأحوال أن تعكس الصوت الكامن في "روح الشعب" بل صارت بوق دعاية لهذا الثريّ أو ذاك، أو بوق إديولوجيا مقيتة كما هو الحال مع حزب العمال في تونس الذي مني بهزيمة نكراء جرّاء تعنّته الإديولوجي وإصراره على رفض القيام بمراجعات تتطلبها المرحلة وآثر على أن يرى الواقع بعدسات براديغمات قديمة متآكلة لا تصلح إلا لكي تُرمى في سلّة مهملات التّاريخ.

لكن من المحزن بل من المخيف أن نرى بعضا من الإنتلجنسيا في تونس تنساق وراء مرشح يؤمن "بالدبّابات" أكثر من إيمانه بالديمقراطيّة. ولعلّ في خسارة هذا المرشح رفض جديد من "روح الشعب" للعودة لمربّع الدكتاتورية وفضح لجزء كبير من الإنلجنسيا الذي ليزال يحلم بدكتاتور جديد يسحق الإسلاميين ويعيش الشعب تحت ظلّه. هذه الإنتلجنسيا هي في حالة تسلّل وإنهيار... بعيدة كلّ البعد عن مسار التّاريخ، لم تستوعب التغيرات في صلب مجتمعها، لم تفهم لعبة التقاطعات بين السياسة الداخلية والخارجية ولا تحمل أي وعي بتحديات المرحلة وليس لها أي مشروع سوى سب الإسلاميين وسب من عارضهم.. إنها نخبة عاجزة على التخطيط مكبّلة بدونكيشوتيّتها غير قادرة على البناء ولا على فكّ شيفرة الرسائل الشعبية لها... لأنها وببساطة تتعالى على الشعب وتراه كتلة كبيرة من الهمج والرعاع.

إذا هل نستطيع أن نقول أن نتائج الإنتخابات كانت ناتجة عن تصويت "عقابي" للنخبة؟ الإجابة قطعا لا. شعبنا لا يحمل وعيا جمعيا كافيا لكي يستطيع القيام بتصويت عقابي، هذا الوعي نجده فقط في الديمقراطيات العريقة أما ديمقراطيتنا الناشئة فهي لتزال بعيدة عن ذلك المستوى. كل ما نستطيع قوله في الإجابة عن هذا السؤال هو التّالي: الشعب التونسي في لاوعيه الجمعي يرى في الأحزاب والنخبة عائقا أمام تحسين حياته الإجتماعية، السياسية، والوجودية. وهذا في حدّ ذاته سليم جدّا ومتناسق تمام التناسق مع منطق وحركة التاريخ السائر نحو التحرّر. مثلما رمى الشعب ببن علي في سلّة مهملات التاريخ قرر هذه المرّة أن يرمي ما تبقى من بن علي ونظامه ومعارضيه في سلة المهملات، لأن نخبة تتمعش من رجال الأعمال ومافيات التهرب الضريبي وأحزاب تبحث عن مصالحها الضيقة وتتعامل مع الحكم بمنطق الغنيمة هي أحزاب ونخب
تعطل سيرورة الشعب نحو الحرية ووجب الإنعتاق منها. الشعب لم يتعلم هذا في يوم وليلة بل في ثماني سنوات جرّب فيها الإسلام السياسي والعائلة الديمقراطية الوسطية وغيرها من الحلول التي باءت بالفشل ولكنه فشل كما قلنا مؤسس للنجاح.

اليوم مع الأستاذ قيس سعيّد يبحث الشعب عن منفذ جديد يستطيع من خلاله إكمال رحلته نحو التحرر. تهاوي الإنتلجنسيا في تونس هو إعلان عن ميلاد أخرى جديدة ستكون أغلبها من الشباب بعيدة عن منابر الدعارة الإعلامية و الإديولوجيات. لا عودة لمربع الدكتاتورية... وأراه من الرمزي موت بن علي بعد أيام من الإعلان عن النتائج. ماتت الدكتاتورية ولن تعود وتموت معها الإنتلجنسيا التي ترعرعت بين يديها وهذا ما أعلنته نتائج هذه الإنتخابات.

كمواطن تونسي مسيحي الإيمان لا أستطيع أن أتمنى لوطني سوى التقدّم والإزدهار، وأن أناضل من أجل أن تتحرّر تونس من مافيا إعلامية و سياسية إستعملت النخبة كبيادق ساذجة في حرب لا فقط على تونس بل ضد حركة التاريخ نفسه.

لا يسعني نهاية إلا أن أقول ما قاله اللاهوتي الدومينيكاني البيروفي غوستافو غوتيارز في كتابه "لاهوت التحرير": "على الكنيسة أن تكون العلامة المنظورة لحضور الله في هذا النضال من أجل التحرّر ومن أجل مجتمع جديد أكثر إنسانيّة تسود فيه العدالة، عندئذ سوف يكون إعلان الكنيسة لمحبة الله، إعلانا صادقا و فعّالا".

الإنسان في الإيمان المسيحي هو قيمة ثابتة لا تقبل المتاجرة، هذه القيمة تستمد قوتها وثباتها من كون الإنسان مخلوق على صورة الله. هذه الصورة التي لا يمكن أن يظهر ألقها إلا من خلال الحرية والكرامة. تحرير الإنسان من عبودية الخطيئة بكل ما تحمل معها من أنانية وعنف وإرجاع كرامته كان السبب الوحيد لتجسد يسوع المسيح على الأرض. على المسيحي إذا أن يواصل المسيرة الخلاصية، التي حققها المسيح على الأرض فوق الصليب وبالقيامة، ويعمل على تحرير شعبه من كل شكل من أشكال التغريب والإستعباد.

نأمل أن تكون تونس في يوم من الأيام أرض حريّة وكرامة وأخوة إنسانية قوامها التسامح والمواطنة.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا
التعليق على مسؤولية المعلق فقط وهو ليس بالضرورة رأي الموقع
1. Good Worship 25 سبتمبر 2019 - 21:48 بتوقيت القدس
شكرا من كل القلب شكرا من كل القلب
شكرا من كل القلب على هذا المقال الرائع و نتمنى لك و لتونس الحبيبة المزيد من التقدم و الرقي. ربنا يبارك تونس حكومة و شعبا بمعرفة يسوع المسيح.
2. Ben ish khai 25 سبتمبر 2019 - 22:35 بتوقيت القدس
أتوق لمعرفة إختبارك مع الرب أخي عاطف أتوق لمعرفة إختبارك مع الرب أخي عاطف
حقا كلما قرأت مقالا من مقالاتك إلا و إنتابتني رغبة لمعرفة إختبارك.. ربنا يباركك و يجعلك بركة لمجد إسمه في تونس و شمال إفريقيا و العالم أجمع. في إسم يسوع.