(اشعياء 53)
رُفع الستار وانكشفت حجب الزمان أمام اشعياء النبي الرائي الذي لقب بالنبي الأنجيلي، لما سيحدث بعد سبعة قرون من الزمان. نراه يصف مشاهد عجيبة كأنها لقطات سينمائية سريعة ومتتالية، هو غير مدرك او مستوعب تماماً انها تروي قصة الحب العجيب للمسيا المنتظر الذي هو مشتهى الأجيال. نراه يكتب هذه الرؤى المدهشة التي احتار البشر في فهمها واحتار الكهنة في سبر أغوارها واحتار اليهود في معرفة ابعادها. انه يصف ما رآه من منظر العبد العاقل المتسامي الجميل والراقي جداً منظر بشع فيقول: "لا صورة له ولا جمال".
هنا نرى اربعة مشاهد رئيسية في هذه الصورة موصوفة على نحو بديع:
المشهد الأول: العبد المتسامي
يفتتح هذا المشهد بهذه العبارة "هوذا عبدي يعقل يتعالى ويرتقي ويتسامى جداً" (اش 13:52). نرى العبد دائما يفتخر بسيده، لكننا نرى هنا السيد له كل المجد يفتخر بعبده الذي وضع نفسه واطاع حتى الموت موت الصليب. "يعقل يتعالى" اذ نراه في مشهد جليل على الجبل يعلم التطوبيات وينطق بأعظم ما نطق به بشر فيأخذ بلب سامعيه، ولما لا وهو العقل الناطق او النطق العاقل. أننا نسمع الناس يشهدون عنه "لم يتكلم إنسان قط مثل هذا لانه يتكلم بسلطان وليس كالكتبة والفريسيين". نشاهده وهو يشفي السقماء المصابين بامراض واوجاع مختلفة، فالمجانين يصيرون عقلاء، المصروعين متزنين، المفلوجين ماشين والعمي مبصرين والحزانى فرحين والمساكين مبشرين والموتى مقامين.
ثم نراه في صورة أخرى "يرتقي ويتسامى جداً" في مشهد عجيب قبل الصليب، عند قبر لعازر الميت منذ أربعة أيام وقد أنتن، نسمع صوته العظيم "لعازر هلمّ خارجاً"، ولدهشة الجموع يخرج الميت وهو مازال ملفوف بالاكفان فيقول حلّوه ودعوه يذهب فمجد الجموع الله وابن الله. ثم نراه "كالملك المنتصر" وهو داخل الى أورشليم والجموع تلقي بالملابس تحت قدميه وتلوح بأغصان الزيتون وسعف النخيل هاتفه له "مبارك الملك الآتي باسم الرب. سلام في السماء ومجد في الاعالي" (متي19: 28). لقد استقبله الشعب كالملك الظافر المنتصر وفي هذا المشهد نجده يتسامى جداً.
المشهد الثاني: العبد المشوّة
هنا ينقلب المشهد الى النقيض من الجمال والسمو والرقي، والأبرع جمالاً من بني البشر الى "لا صورة له ولا جمال فننظر اليه ولا منظر فنشتهيه". لقد كان منظره كذا مفسداً ومشوهاً بطريقة بشعة. نرى فيها عمل الاشرار والخطاه بعد القبض عليه في جسيماني، ويصف النبي هذا المشهد فيقول "من الضغطة والدينونة أخُذ" من معصرة الألم الى المحاكمات حيث ربطوا يديه ووقف في تحقيق واستجوابات مستمرة من بيت حنان الى بيت قيافا ثم وضعه في السجن الى الصباح لحين انعقاد مجمع السنهدريم والحكم عليه بالموت بشهود زور، ثم ارساله الى الوالي الروماني لكي ما يصدق على حكمهم، ثم يرسله الى هيرودس الذي كان يريد ان يراه، فيشاهده وهو مخذول محتقر ومتروك من الناس، يطلب آية فلا يعطيه ويستجوبه فلم يفتح فاه، فيستهزء به هو وجنوده امعاناً في السخرية ويلبسه ثوب ارجواني ويرده الى بيلاطس الذي يأمر بجلده. ثم نري الدم يغطي جسده الكريم ولسان حاله يقول:
"بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين، وجهي لم استر عن العار والبصق"(اشعياء 50: 6). فيصير كإنه "محتقر ومخذول من الناس رجل اوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به".
المشهد الثالث: العبد المتألم
تتجسد قمة المأساة في هذا المشهد وهو البار القدوس الذي لم يفعل خطية ولم يعرفها، نراه في مقارنه مع قاتل ولص، ويختار الشعب أن يطلق سراح بارباس المذنب ويطلب ان يصلب البريء، حينئذ نرى بيلاطس يأتي به، بعد جلده وعلى رأسه اكليلا من الشوك لابسا ثوب ارجوان (يوحنا 19: 2) أمام الجموع الصارخة وهو يعلم انهم أسلموه حسداً، يقول لهم ماذا أفعل بهذا "الإنسان" فتصيح الجموع: أصلبه.. أصلبه، فيغسل يديه ويقول: انا بريء من دم هذا البار، فيزداد صراخهم: دمه علينا وعلى أولادنا. نراه بعد ذلك حاملاً الصليب في طريق الجلجثة، ويصف النبي اشعياء هذا المشهد وهو معلقاً على خشبة العار"لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها. ونحن حسبناهُ مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا"(اشعياء 53: 4و5). لقد ظن الذين تآمروا عليه وصلبوه والذين شاهدوه انه قطع من ارض الاحياء، لكنهم لم يعرفوا أنه "ضرب من اجل ذنب شعبي.. مع انه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش".
المشهد الرابع: العبد المُمجد
لم تكن هذه خاتمة الرؤيا المأساوية التي رآها اشعياء النبي، فقبل ان يختم قصيدة العبد المتألم يرينا النبي المشهد من الجانب السماوي الذي أخفي عن اعين من لم يدركوا المقاصد الآلهية فيقول "أما الرب فسر بان يسحقه بالحزن، إذ جعل نفسه ذبيحة أثم يرى نسلاً تطول ايامه ومسره الرب بيده تنجح". لقد جعل نفسه ذبيحة إثم وهو البار القدوس لكي ما يرى نسلاً مباركاً من المؤمنين به تطول ايامه ومسره الرب بيده تنجح، أي اتمام الخطة الإلهية التي حققها واكملها على الصليب عندما حمل خطية العالم وصار له حق أن يشفع في الخطاه المذنبين. إنه سدد الدين الذي على العالم عندما قدم نفسه كحمل الله "من تعب نفسه يرى ويشبع. وعبدي البار بمعرفته يبرّر كثيرين وآثامهم هو يحملها"(اشعياء53: 11). لقد رأى كل المؤمنين باسمه قد صاروا متبررين مجاناً بنعمته، لأن ذنوبهم وخطاياهم هو قد حملها على خشبة الصليب.
فهل عرفت المسيح المخلص الذي تألم وصلب وقام من أجلك لتكون لك حياة أبدية؟ لقد أخذ موتك لكي ما يعطيك حياته الابدية.. ودفع ثمن أجرة الخطية "الموت" لكي ما تحيا مبرراً ومغسلاً بدمه الثمين. أحثك الآن أن تقبله رباً ومخلصاً شخصياً لحياتك لتمتع بغفرانه، لأنه حمل خطايا الآثمين وشفع للمذنبين فتمتع بفدائه الثمين. آمين.