نهاية سنة خير من بدايتها!

يرجع كلٌّ منّا إلى موضعه، ويعود الهدوء إلى أيّامنا بعد صخب الأسبوع الأخير من العام المنصرم ومواسمه البهِجة، كعودة الهدوء إلى بحيرة صغيرة صافية غزاها سِرب من الدّلافين المرحة والمتراقصة فوق سطحها المائج ومياهها المتلألئة بأشعّة الشمس وبقرصها المنعكس فيها مع بعض الغيمات البيض تُوشِّي صفحة السّماء الياقوتيّة الزّرقاء فوقها.
03 يناير 2012 - 04:18 بتوقيت القدس

"نهاية أمر خير من بدايته" (الجامعة 7:8)

سِرب من الدّلافين: يرجع كلٌّ منّا إلى موضعه، ويعود الهدوء إلى أيّامنا بعد صخب الأسبوع الأخير من العام المنصرم ومواسمه البهِجة، كعودة الهدوء إلى بحيرة صغيرة صافية غزاها سِرب من الدّلافين المرحة والمتراقصة فوق سطحها المائج ومياهها المتلألئة بأشعّة الشمس وبقرصها المنعكس فيها مع بعض الغيمات البيض تُوشِّي صفحة السّماء الياقوتيّة الزّرقاء فوقها. ثم ما لبثت تلك الكوكبة الدّلفينيّة الرّشيقة، لِما بدا كونها في عجلة من أمرها، أن غادرتها؛ لتتابع سير رحلتها نحو اليم العظيم.

نظرات إلى الوراء: وإذ نُلقي بعيون ذاكرتنا نظرات إلى الوراء على مسار وتعرّجات السّنة الفائتة التي سلكناها، مستعينين بروزنامتنا ومذكرّاتنا المدوّنة، نجد بالحقيقة أن آثار عمل الله في مسالك حياتنا تقطر دسمَ مجدٍ وإبداعٍ وإحساناً فيّاضًّا، وذلك بالرغم من جموحنا وإخفاقاتنا الكثيرة، ودون قطع النّظر عن المرائر التي تذوقناها والشدائد التي كابدناها، وما تخلّلها من معاناةِ تحدِّيات شتّى. لأنه " كما يترأف الأب على البنين يترأف الرب على خائفيه. لأنّه يعرف جِبلتنا. يذكر أنّنا تراب نحن" (مز103:13,14 ).

ألم يُراقب هو تيهاننا هنا وهناك، رادعاً إيّانا عن عدّة قرارات حمقاء كادت تلحق بنا خسائر فادحة؟ وحين جاء الموقف المحرج كيف أسرع بالإنفراج بمهارة يديه، مانحاً الخلوص من الهموم أو تفريجها! ولمّا أوشكنا على الدخول في حقل ألغام من التجارب الخطرة، كان لهيب سيف متقلِّب هناك يسدّ أمامنا الطريق التي ظهرت لنا مستقيمة، فيما عاقبتها طرق الموت؛ وكذلك لمّا أُصبنا بجراح غائرة وثخينة من جرّاء شظيّة متطايرة من مدفعيّة عدو الخير الثّقيلة، كان السّامري الصّالح الحقيقي بجوارنا في ميدان المعركة يسكب عليها زيتا وخمراً ليضمِّدها بتمامها؛ وعندما اضطرم الحزن في دواخلنا، أسمعنا الآب الحنّان سروراً وفرحاً فابتهجت عظامنا التي سحقها! وعند الألم والحيرة لفراق قريب صديق بموت غير متوقّع، جاء الصوت المعزي يهمسُ بوضوح وجلال، بقولهِ:"هو يهدينا حتّى إلى الموت" (مز 48:14).

لقد اقتصّ الزمن منّا سنة أخرى لن ترجع أبداً, ونحن اقتصصنا منه ثمر نضجٍ وإنجازات تدوم آثارها المباركة إلى الأبد؛
"أيامنا أسرع من عدّاء" كانت - وما تزال- لكننا قد افتدينا الوقت وصنعنا مشيئة الرب خلالها؛ مرّت علينا أوقات رتيبة وعصيبة كأنْ لا طائل تحتها. وفي المقابل، متّعنا الله بأوقات أخرى إذ بحقٍّ يُقال في كل يوم منها إنه كألف سنة! فعلى الرغم ممّا ألم بنا عند المنعطفات الحادّة، إلاّ أنه من إحساناته أننا لم نفنَ إذ أحاطنا برحمة عنايته وبتعضيد محبّة الصديقين وصلواتهم المستجابة. ثم ما لبث أن أولم لنا موائد شهيّة ليملأ أفواهنا ضحكاً، وجوفنا طعاماً وسروراً! فالصّديق الألوف الودود الذي أتى به الرب من أرض بعيدة، كان مُحمّلاً بروح الخير والمرح، والأُلفة الأسرويّة.

لقد أصاب الجسد سنة إضافية من الهرم وقد لاح الشيب قي المفرق، غير"أن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنّا"، لأنه عن قليلٍ "سيغير الربُّ يسوع المسيح شكلَ جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده"؛ ها قد لفظ عام آخَر أنفاسه الأخيرة، وما أكثر المتحسِّرين من جرّاء ذلك؛ أمّا كل مَن سار خلاله مع الله وخدم المسيح مخلصه فيقدر بيقين وبهجة أن يقول : "نهاية سنة خير من بدايتها".

صفحة سنة جديدة: واليوم، ها إن يد الزمن، بل بالحري يد القدير، تقلب صفحة أخرى من كتاب تاريخ حياتنا هنا في عالمنا هذا، وتفتح لعمرنا صفحة سنة جديدة أمامنا؛ فماذا، يا تُرى، سنخطّ بمداد الحياة وبخياراتنا سطورها؟ وكيف ولِمن سنحياها؟
لا خوف علينا إن كنّا قد عقدنا العزم على أن نضرب بالعيش برفاهية عرض الحائط، لكي ما يتأتّى لنا أن نختار نمط حياة الرب يسوع ونناصر قضية إنجيله بكليّتنا. ففيما تنشغل أذهاننا بشخص الرب ونتفرس أكثر فأكثر في جماله في مرآة الكلمة المكتوبة وبشركة الصلاة، ينشرح قلب أبينا السّماويّ ويملأنا الروح المعزي بقوة الحياة والفرح. وحين نخرج إلى العالم والحال هذه، للشهادة له من خلال أعمالنا اليومية الإعتيادية أو بواسطة خدمة الكلمة، سنبرع في ترك أثر حقيقي وعميق في الآخرين لمجد السّيد. كما سنلحق هزيمة نكراء بقوى الظلام التي سرعان ما تتبدد هاربة منّا. لأننا بذلك نكون عاملين مع الله ومحققين قصده التام من خلاصنا ومن وجودنا على الغبراء كوكبنا هذا.

لِمَ الأسف والتّحسُّر؟ : أجل، فمتى عشنا كلّ يوم لمن مات وقام لأجلنا وتبعناه بسرور لحظة بلحظة، فعندئذ لن يكون في القلب بعد أي مكان لتوجُّعِ حسرةٍ على أعوام خوال قد ولّت ولا يمكن استردادها. ذلك أنّه في السّير مع ابن الله يتمّ استبدالها بميزات مجيدة نمتلكها للأبد، لتصبح جزءاً أبدياًّ من شخصيّاتنا التي يعمل الله على صقلها وإعادة تشكيلها على صورة شخص الإبن المبارك. فحينما نستبدل بتراب الأعوام الزّائلة ذهب الأبديّة المشرقة، نكون حقيقةً إذ ذاك رابحين، وأثرياء سُعداء. وإلى ذلك، فلمَ الأسف والتّحسُّرعلى سنة مضت ما دمنا هكذا قد سرنا فيها مع الرب؟! حيث أصبحنا بذلك أكثر قرباً إلى بيت الحكمة منه إلى بيت الحماقة. إنما الأسف، بل الأسف الشديد، ينبغي أن يكون من نصيب أولائك الذين لم يفتدوا الوقت ليميزوا مشيئة الرّب لحياتهم يوماً بيوم. وبهذا فاتهم إطاعتها، وبالتّالي أهدروا طاقاتهم والفرص الثمينة للقيام بما يُفرح قلب الله ويعظم اسمه، وبما يجلب عائدات البركة لأنفسهم ولأناسٍ كثيرين.

على غرار قول الجامعة: أمّا أن يُقال بأنّ "نهاية سنة خير من بدايتها" وذلك على غرار قول الجامعة: "نهاية أمر خير من بدايته "، فذلك ينطبق على يوسف في مصر، لا على لوط في صوغر؛ وعلى يعقوب أبي الأسباط ،حيث بالأكثر يجدر به أن يُقال:"نهاية عُمر خير من بدايته"؛ إنّما بالنسبة إلى ديماس الذي ترك الرّسول بولس وقد أحبّ العالم الحاضر، فلا تُوائمه تلك المقولة إلاّ بعد إجراء تبديل في موقع كلٍّ من الكلمتين اللّتين في طرفيها لتحل الواحدة مكان الأخرى، فتصير: " بداية أمر خير من نهايته".

ونحن، يا تُرى، ماذا سيقال فينا عند نهاية هذه السّنة أو بالأولى عند ختام حياتنا هنا على هذه الأرض؟

علينا، إن شئنا أن نبلي في معركة الحياة بلاءً حسناً، أن نُقبل على كل سنة جديدة بمثل ذلك العزم الحكيم: " أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ". فحينئذ سنختبر روعة كل يوم منها، مع استجابات محدّدة وفائقة لصلواتنا واستمتاع لذيذ برفقة المخلص لنا. وحتى لدى سلوكنا في وسط الضيق، فإنه يُحيينا؛ وفي اضطراب العالم من حولنا، وتعاظم الجريمة على أشكالها، وثورات الشعوب مع قطف روح الرؤساء، فإن سلامنا كجبل قدْسه الذي لا يتزعزع أبداً. فالذي أعاننا إلى هنا، لا بد وأن يوصلنا إلى نهاية المطاف حيث لانهائيّة السرور والتّسبيح.

فيا لروعة الحياة، إذاً، حينما نُفسح له في مجلس قلوبنا وفي المجال ليظهر غنى مجد حياته فينا ومن خلالنا، وندعه يتقن حياكة كل خيط من خيوط نسيج الدنتيلا الرّائع لأيّام عمرنا كله. حينذاك بحقٍّ سيعلو من القلب صوتُ ترنُّمنا: " كلّلتَ السّنة بجودك، وآثارك تقطرُ دسماً" (مز65:11).

أيها الرب يسوع، في مطلع سنتنا الجديدة هذه نسلمك قراراتنا كلها. ساعدنا أن نتغذّى يوميّاً بكلام الكتاب، حتى نتمتّع بذكاء روحي بارع فنميز صوتك ونتبعه. إحفظنا بعيدين عن منطقة الإثم مهما تأنّق بتعدّد ألوانه. وبدل المرارة واللاّمبالاة، إجعل قلوبنا حارّة بالمحبة وبفرح المجد.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا
التعليق على مسؤولية المعلق فقط وهو ليس بالضرورة رأي الموقع
1. حنين الياس عبيد 03 يناير 2012 - 08:56 بتوقيت القدس
أكثر من رائع أكثر من رائع
الرب يباركك قس عماد ويزيدك أكثر في موهبة الكتابة لمجد اسمه القدوس . المقال أكثر من رائع الى الأمام في مسيرتك في الكتابة والتأليف
2. بار 03 يناير 2012 - 14:32 بتوقيت القدس
هذا حق مجيد هذا حق مجيد
هذا حق مجيد: فالذي أعاننا إلى هنا، لا بد وأن يوصلنا إلى نهاية المطاف حيث لانهائيّة السرور والتّسبيح. شكرا جدّا والرب يزيدكم
3. عنان نجار 04 يناير 2012 - 09:12 بتوقيت القدس
افضل افضل
الذي يسلك مع الرب ويجعله هو الاول والاخر في حياته يرفعه الله من مجد الى مجد تكون نهايه السنه جميله ورائعه، فكم بلحري ببدايتها.قسيس عماد الى الامام مع الرب يعطيك من عنده فتعطي الرب يباركك
4. اسامة فؤاد حنا 28 يناير 2012 - 23:57 بتوقيت القدس
مقال اكثر من رائع مقال اكثر من رائع
اشكرك جدا على فكرة المقال والفاظه القوية الرصينة وترابطه الفكرى واللغوى واتمنى ان تقرا ما اكتبه من شعر ولى الشرف ان تعطينى رايك وتعليقك وتقييمك وان تقوم بتلحين ما تجده يخدم الرب