كأس العهد في الفكر المصلح

يتأسس إيمان الإنجيليين بكأس العهد الجديد على ما تكلم وعلم به المسيح حول هذه الكأس. يُذكر المسيح في مناسبات مختلفة أنه سيشرب هذه الكأس، وهي تحمل دمه الذي يُسفك من أجل مغفرة الخطايا. الكأس في الكتاب المقدس تُستخدم كرمز لدينونة الله وسخطه على خطايا شعبه. شرب كأس دينونة الله يعني تحمل العقاب الإلهي كاملًا.
29 ابريل - 06:40 بتوقيت القدس
كأس العهد في الفكر المصلح

يتأسس إيمان الإنجيليون بكأس العهد الجديد، على ما تكلَّم وعلَّم وأخبر به المسيح عن تلك الكأس، ففي مناسباتٍ ثلاث يذكُر المسيح أنَّ كأسًا سيشربها، رغم صعوبتها ومرارتها حتى أنَّه صل طالبًا من الآب السماوي أن يُجيز عنه هذه الكأس، لكنَّه في مناسبة أخرى يؤكد أنَّ هذه الكأس هي كأس العهد الجديد، ويدعونا أنْ نشرب منها _لا أن نشربها_ لأنَّها تحمل دمه الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا.
المرة الأولى التي تكلَّم فيها يسوع عن كأس العهد الجديد، عندما كَانَ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ الاِثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذاً عَلَى انْفِرَادٍ فِي الطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ: هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». حِينَئِذٍ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ أُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي مَعَ ابْنَيْهَا وَسَجَدَتْ وَطَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ لَهَا: «مَاذَا تُرِيدِينَ؟» قَالَتْ لَهُ: «قُلْ أَنْ يَجْلِسَ ابْنَايَ هَذَانِ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِكَ وَالآخَرُ عَنِ الْيَسَارِ فِي مَلَكُوتِكَ». فَأَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبِغُ بِهَا أَنَا؟» (متى 20: 17-22)؛ إنَّها الكأس التي يشربها هو، ولن يستطيع غيره أن يشربها، والكأس تُشير هنا إلى الآلام النفسيّة والروحيّة والجسديّة، التي سيجتازها وسيتحملها المسيح (متى 26: 39، 42)؛ غالبًا ما تُستخدم الكأس في الكتاب المقدس كرمز لدينونة الله وسخطه على خطايا شعبه لأنه تركه وتمرد على شريعته (ارميا 25: 15-16)؛ كما أنَّها كأس غضب الله ودينونته (مزمور 75: 8؛ إشعياء 51: 22)؛ إنَّ شُرب كأس دينونة الله صورة مجازية كثيًرا ما تستخدم في الكتاب المقدس، وشُرب هذه الكأس يعني تحمُل العقاب الإلهي كاملًا. (راجع أيضًا: حبقوق 2: 16؛ رؤيا 14: 10؛ 16: 19؛ 18: 6).

ولجثامة وهول هذه الكأس، نرى المسيح، يتكلَّم عنها ثالثةً، في الليلة التي أُسلِم وقُبض عليه فيها، حينما صلى إلى الآب السماوي، وطلب منه بلجاجة أن يَعبُر عنه، هذه الكأس، ولأنَّ يسوع كان إلهًا كاملًا، ابن الله، كان يعرف ويُدرِك أنَّ الصليب هو الطريقة الوحيدة لخلاص شعبه، لكنَّه كإنسان ٍكامل، صلى لآبيه السماوي أنْ يُبعِد عنه هذه الكأس، قائلًا: قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ»، لم يُصلِ يسوع مرة طالبًا رفع هذه الكأس عنه، لكنَّه «مَضَى أَيْضاً ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلاً: «يَا أَبَتَاهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ» (متى 26: 39، 42).  لم تكن صلاة المسيح رفضًا لإرادة الله، أو تَهرُبًّا من الخطة الأزليّة للفداء، لأنَّه كان على استعداد لطاعة الآب مهما تطلب الأمر؛ لقد كشفت صلاة يسوع في جثسيماني عن إنسانيته الكاملة، كما كشفت عن طاعته الكاملة واستعداده لاتباع إرادة الله المُعلنة حتى لو كلَّفته هذه الطاعة بذل حياته حتى الموت، موت الصليب (مرقس 14: 35-36)؛ لقد أتمَّ يسوع مهمته ببذل نفسه، وتقديم حياته، وشرب كأس الألم حتى النهاية.

أمَّا المرة الثانيّة التي تكلَّم فيها المسيح عن كأس العهد، كانت حينما اجتمع مع تلاميذه أثناء الاحتفال بالفصح الأخير، في الليلة الأخيرة له قبل القبض عليه وصلبه وموته، «وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي». وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: «اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ لأَنَّ هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا» (متى 26: 26-28)؛ كان الاحتفال بالفصح حين قدَّم يسوع كأس العهد الجديد لتلاميذه، لكنَّ الغريب أنَّ الكتاب المقدس لم يذكُر أنَّ من أساسيّات الفصح تناول أي كأسٍ، والإشارة الكتابيّة الوحيدة للكأس فيما يتعلق بالفصح موجودة فقط في العهد الجديد، لكنَّ تقليدات اليهود، وتحديدًا المشناه، تذكر أربع كؤوس يشربها المحتفلون بعيد الفصح، كان يُطلق على الكأس الأول، "كأس التقديس"، والكأس الثاني "كأس الضربات"، والكأس الثالث "كأس الفداء" أو "كأس الخلاص"، والكأس الرابع والأخير كان يُطلق عليه "كأس المديح" أو "التهليل"، دعا يسوع الكأس الذي يتم تناوله بعد العشاء، وهو الكأس الثالث تقليديًا، كأس «الْعَهْدُ الْجَدِيدُ» (لوقا 22: 20)؛ ودعاها الرسول بولس «كَأْسُ الْبَرَكَةِ» وكذلك «كَأْسُ الرَّبَّ» (1كورنثوس 10: 16، 21)؛ وأي بركةٍ يمكن أنْ تكون أعظم من تلك التي اشتراها لنا المسيح في موته ودفنه وقيامته؟

لقد اعتمد كل من يسوع وبولس على شيء من التقليد اليهودي لتقديم رؤى لم يتم فهمها من قبل. فمن خلال تسمية الكأس «الْعَهْدُ الْجَدِيدُ»، يُشير يسوع بشكلٍ مباشر إلى الوعد في إرميا "هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْداً جَدِيداً. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلِينَ: [اعْرِفُوا الرَّبَّ] لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ" (إرميا 31: 31-34)؛ لقد انتهك الشعب بخطيته عهد الله، وقد كان نتيجة ذلك كأس غضب الله ودينونته أمر رهيب، لكن بدلاً من ذلك، وعد الله بعهدٍ جديدٍ للنعمة والخلاص والغفران.

لقد جاء يسوع ليؤسس "عَهْدٍ أَفْضَلَ" (عبرانيين 7: 22)؛ تُنقش فيه إرادة الله داخل قلوبنا، وسندخل معه في علاقة شخصيّة حميميّة، وسنعرفه جميعنُا، من صغيرنا لكبيرنا، وسننال رحمة وغفرانًا، (راجع أيضًا عبرانيين 8: 6-13)، إنَّه عهدٍ يقوم على الإيمان بسفك دم المسيح لغفران الخطيئة، وليس على الذبائح المتكررة أو أي نوع آخر من الأعمال (أفسس 2: 8-9). لأنَّ يسوع هو وحده حمل الله القدوس، فإنَّ ذبيحته لمرة واحدة تكفي للتكفير عن خطايا كل من يؤمن به؛ هذا لا يعني أنه لا يوجد في وسطنا أناس يَدعون أنّهم يعرفون المسيح لكنهم لا يعرفون. لكن هؤلاء الذين تم خلاصهم بصدق وصاروا أعضاء حقيقيين في العهد الجديد يولدون جميعًا من جديد وتمّ تبريرهم بالإيمان بيسوع، ونالوا غفرانًا أبديًا عن خطاياهم في الماضي، وفي الحاضر، وفي المستقبل.

وهكذا عندما اقتبس الرسول بولس أقول الرب يسوع عن كأس العهد الجديد، فإنَّه يتحدانا ككنيسة ويضعنا أمام دعوتنا ومسؤوليّتنا، قائلًا: "كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هَذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هَذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ" (1كورنثوس 11: 26)، فنحن مدعوون لأن نجتمع معًا، ولنتناول معًا عناصر الخبز والخمر متذكرين كأس العهد الجديد، وما تحمله وفعله لأجلنا الرب يسوع، ومسؤوليتنا في الشهادة والكرازة، والإعلان عن عهدٍ جديدٍ قد صنعه المسيح بدمه الزاكي الكريم، إنها مسؤولية الشركة والاتحاد معًا كجسدٍ واحد، لأنَّه عندما نأكل هذه العناصر في شركة مع مؤمنين آخرين، فإننا نؤكد إيماننا وشركتنا في المسيح.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا