لقد اخترت تسمية العصر الذي وصلت منه المعلقات العشر “عصر المعلقات” بدلًا من “العصر الجاهلي” الشائع والخاطئ. لأنّ إطلاق صفة الجاهل على الإنسان صعبٌ ومُهين؛ يتعارض مع احترام حقوق الإنسان من جهة ويفتقر إلى الدقة من جهة أخرى. إذ لا وجود لإنسان يجهل كل شيء. وفي المقابل، لا وجود لآخر يعلم كلّ شيء. والجاهل- في نظري- أخو الأحمق ما لم يكن أخا الهالك. فكيف تطلق تلك الصفة على شعب بأكمله أو طائفة أو قوم أو قبيلة حتى أقلّ مجموعة من الناس؟ مَن يبحث عن كلمة “جاهل” في سِفر الأمثال يحصل على إحدى وأربعين آية ضدّ الجاهل وعلى إحدى عشرة آية في سِفر الجامعة- وفق ترجمة ڤاندايك- وكِلاهُما لسليمان الحكيم. إذًا حتى الإنسان القديم لم يكن جاهلًا؛ ذلكم أيّوب الذي عاش قبل سليمان بقرون، كان مستقيمًا وتقِيًّا- وإن لم يكن نبيًّا في الكتاب المقدّس- قد اعتبر علماءُ اللاهوت سِفرَهُ من أقدم الأسفار الكتابية ما لم يكن أقدَمَ ما كُتِب في العالم على الإطلاق (۱) وبّخ أيّوبُ امرأتهُ ذات مرة مُشبِّهًا كلامَها بكلام امرأة جاهلة أو أنها تكلمت كإحدى الجاهلات (أيّوب 10:2) لكنهُ لم يقل لها “أنتِ جاهلة” يوم لامتهُ على صبره وتمسّكِهِ بالنزاهة وحرّضتهُ على التجديف على الله. ثمّ أردف في الآية ذاتها بحكمة صالحة إلى يومنا هذا: {أنقبَلُ الخيرَ من الله، وأمّا الشّرّ فلا نقبله؟} فهل اعتبر أحدٌ أيّوبَ جاهلًا؟ حاشا. لذا يُسيء الإنسانُ الذي يحاولُ تحقيرَ أخيه الإنسان والاستهزاءَ به بالقول: جاهل أو جاهليّ. قال المسيح له المجد: {قد سمِعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتلْ، ومَن قتلَ يكون مستوجبَ الحكم. وأمّا أنا فأقول لكم: إنّ كلّ مَن يغضب على أخيه باطلًا يكون مستوجب الحكم، ومَن قال لأخيه: رَقا، يكون مستوجبَ المَجْمَع (۲) ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجبَ نار جهنم} - مَتّى 5: 21-22 آمين
وَرَدَ في “لسان العرب” لاٌبن منظور التالي: {الجَهْل: نقيض العِلم. والجَهَالة: أَن تفعل فِعلًا بغير العِلم. والجاهِلِيَّة زمن الفترة ولا إِسلامَ. وفي الحديث: إِنكَ اٌمرؤ فيكَ جاهِلِيَّة؛ هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإِسلام مِن الجَهْل بالله سبحانه ورسولِهِ وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكِبْر والتَّجَبُّر وغير ذلك. وفي الحديث: مَن فارَق الجماعة فمِيتتُهُ جاهليّة، أي يموت على ما مات عليه أهلُ الجاهلية من الضلال والجهل} انتهى
وتعليقي: إنّ هذا الذي ورد في المعجم يدلّ على أنّ مؤلِّفه ظنّ أنّ الإسلام جاء مُنقِذا من الضلال والجهل بالله داعِيًا إلى التوحيد. أمّا الحقيقة فعلى خلاف ذلك؛ لإنّ أهل الكتاب قد سبقوا غيرهم إلى التوحيد. فتغنّى به شعراءُ موحِّدون مثل أميّة بن أبي الصّلت وزيد بن عمرو بن نفيل القرَشيّ والسَّمَوءَل (شمُوئِيل بالعبرية) علمًا أنّ آيات التوحيد المدوّنة في الكتاب المقدّس بعهديه تُعَدّ بالمئات (1958 آية بحسب أحد الدارسين) فمثالًا في العهد القديم: {إسمعْ يا إسرائيل: الرّبّ إلهنا ربّ واحد} – سِفر التثنية 4:6 وفي العهد الجديد بلسان السيد المسيح: {إن أوّل كلّ الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل. الربّ إلهنا ربّ واحد. وتحبّ الربّ إلهَكَ مِن كلّ قلبك، ومن كل نفسِكَ ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصيّة الأولى. وثانية مثلها هي: تحبّ قريبَكَ كنفسِكَ. ليس وصيّة أخرى أعظم من هاتين} – مرقس 12: 29-31 أمّا الثالوث الإلهي فهو تعبير عن ذات الله وكلمته وروحه أي أنهُ شرحٌ مُفصَّل لجوهر التوحيد. لكنّ التوحيد في الإسلام شعارٌ أمّا الواقع فمختلف؛ يكفي ما ردّد المسلمون بقولهم “الله ورسوله أعلم” دليلًا على الشرك بالله، لأنهم وضعوا إنسانًا في منزلة الله من جهة العلم- حاشا. أمّا المزيد ففي حديث للأخ رشيد- الذي عرف الإسلام بامتياز فآمَن بالمسيح فاديًا ومُخلِّصًا- إذ تحدّث في برنامجه «سؤال جريء» في موضوع «الإسلام وخدعة التوحيد» في الحلقة المرقمة 133 ثمّ أكمل الموضوع في الحلقة التالية مستضيفًا الأخ وحيد. وفي الإمكان مشاهدة تَينِكَ الحلقتين على الإنترنت (موقع الاخ رشيد) ويدلّ كلام ابن منظور على أنّه لم يطّلع جيّدًا على الديانات التي كانت موجودة في شبه جزيرة العرب. ولم يقرأ عن التعايش الآمِن بين أصحاب تلك الديانات على رغم اختلافها. ولم يعلم أن مؤسّس الإسلام هو الوحيد من بينهم الذي أراد فرض دينه على الجميع بالقوة. ولم يهتم ابن منظور بأبيات الشعر التوحيدية التي دلّت على أنّ شعراءَها قد عرفوا الله جيّدًا وعرفوا أنبياءَهُ ورُسُلهُ المدوّنة تفاصيلهم في الكتاب المقدّس. ولم يعلم بعدد القبائل العربية، اليهودية والنصرانية، التي كانت تُرزق في شبه جزيرة العرب
وورد في “العباب الزاخر” للحسن بن محمد الصّغاني التالي: {سألَ العبّاس بن عبد المُطَّلِب عمر- رضِيَ الله عنهما- عن الشُعَراء فقال: امرؤ القَيْس سابِقُهم، خسَفَ لهم عَيْن الشِعْرِ، فافتقرَ عن مَعانٍ عُوْر أصَحَّ بَصَر. وامرؤ القيس بن عابِس... بن ثَوْر الكِنْديّ: جاهِليّ، وأدرَكَ الإسلام، رضِيَ الله عنه، وليس في الصَّحابة مَن اسمه امرؤ القيْس غيْرُه. وامرؤ القيس بن بَكر بن... بن ثور الكِنْديّ: جاهِليّ، ولقبُه الذائدُ. وامرؤ القيس بن عمرو بن الحارث... بن ثور الكِنْديّ: جاهِليّ. وامرؤ القَيْس بن حُمام... بن وَبَرَة: جاهِليّ. وامرؤ القيس بن بحر الزُّهَيريّ: من وَلَدِ زُهَيْر بن جَنَاب الكلبيّ. وامرؤ القيس بن ربيعة بن الحارِث... بن تَغْلِب، وهو مُهَلهِل الشاعِر المشهور، ويقال: اسْمُه عَدِيٌّ. وامرؤ القيس بن عَدِيّ الكلبيّ. وامرؤ القيس بن كُلاب بن رِزام العُقيليّ ثمَّ الخُوَيلدِيُّ وهو خُوَيلِد ابن عوف... بن عُقيل. وامرؤ القيس بن مالِك الحِمْيَرِيّ. هؤلاء كُلُّهم شُعَراء} انتهى
وتعليقي: يدلّ ما تقدّم على أنّ المسلمين الأوّلين هم الذين أطلقوا صفة “الجاهليّ” على الإنسان الذي عاش قبل الإسلام وعلى مَن أدرك الإسلام وما أسلم، الذي فضّل البقاءَ على “جاهليّته” تفضيلا. بل أطلقوا تسمية “العصور الجاهلية” على تلك التي سبقت ظهور الإسلام. فبات اٌمرؤ القيس بن عابس... بن ثور الكِنديّ في نظر الصّغاني مِمّن “رضِيَ” الله عنهم، لأنهُ أسلم، إذنْ لا يُعتبَر جاهليًّا! فما أدرى الصّغاني أنّ الله جلّ قدرُهُ رضِيَ عنهم؟ وكيف يرضى الله عمّن ترَكَ المسيح الذي هو مِثالُ الله الوحيد على الأرض وكلمتُهُ وروحٌ منه؟ كما أنّ الصّغاني لم يتنبّه إلى أنّ كندة من القبائل المسيحية، مثلها بكر وتغلب وطيء وقبائل أخرى كثيرة، لا يحقّ لأحد نعتها بالجهلاء، بل من الإساءة إلى حقوق الإنسان إطلاق صفة “الجاهلي” على إنسان عاش قبل الإسلام قد عُرف بالتقوى والكرم والشرف وسائر الفضائل. من جهة أخرى؛ مَن كان يجرؤ على قول كلمة “جاهل” لعنترة بن شدّاد. ومَن كاد ينجو مِن ألسنة اٌمرئ القيس وعمرو بن كلثوم والنابغة الذبياني وغيرهم. وهل من الإنصاف نعت حاتم الطّائي، الذي يُضرَبُ المَثلُ بكرَمِهِ وفروسيّته، بتلك التسمية؟ أخيرًا، يعني المفهوم الإسلامي للجاهليّة أنّها ممتدّة إلى عصرنا، لأنها تشمل مليارات من البشر الذين أدركوا الإسلام وما أسلموا. فبأيّ حقّ جَعَلَ المسلمون الأوّلون مِن الإسلام مقياسًا للعلم بالله وبغير الله؟ مع أطيب المنى
* * * * *
۱
عاش أيّوب- على الأرجح- خلال الثلث الأوّل من الألف الثاني ق. م. ما قبل خروج بني إسرائيل من مصر بأجيال عدّة. وأيّوب من بني أدوم الذين سكنوا قسمًا من بلاد العرب، من عُوص (أيّوب 1:1) الواقعة شماليّ شرقيّ فلسطين– ضمن بلاد الآراميّين. وهو شخصية حقيقية ورد اسمه في مواضع شتى في الكتاب المقدس؛ مثالًا سفر حزقيال14: 14 و20 في العهد القديم وسِفر يعقوب 11:5 في العهد الجديد
۲
رقا: من الكلمات الآرامية التي تُطلق على المقابل عن انفعال وغضب، للاستهزاء به أو تحقيره، قد تقابل “تافه” أو “فارغ” بالعربيّة. أمّا المقصود بالمَجْمَع: السنهدرين (سونادريون باليونانية) وهو مجلس قضائيّ قراره نهائي، أعلى من المحكمة الابتدائية التي يمكن نقض حكمها