أزمة البطريركية اللاتينية والنفق المشرق

أطّل علينا المطران بيتسابالا، المدبر الرسولي لكنيسة اللاتين في القدس الشريف، قبل أيام قليلة بأولى رسائله بمناسبة بدء زمن الصيام المبارك. وجاءت الرسالة بسيطة وواضحة وواقعية وجريئة بكل معنى الكلمة
10 مارس 2017 - 10:33 بتوقيت القدس

المطران بيتسابالا

أطّل علينا المطران بيتسابالا، المدبر الرسولي لكنيسة اللاتين في القدس الشريف، قبل أيام قليلة بأولى رسائله بمناسبة بدء زمن الصيام المبارك. وجاءت الرسالة بسيطة وواضحة وواقعية وجريئة بكل معنى الكلمة، وأسّهب الكاتب على ذكر مسيرته القصيرة والصعبة في الدار البطريركية في بيت المقدس والتي بدأها في 15 تموز من العام الماضي. 

من الواضح أن الهدف من الرسالة كان وضع جموع الناس بكل جوانب الأزمة التي تمر بها البطريركية اللاتينية في الأرض المقدسة. وتطلّع المطران بيتسابالا من ناحية ثانية إلى ترسيخ العلاقة التي تربطه بالناس لا سيما بأسلوبه المباشر في مخاطبتهم، مع العلم أننا لم نتعود على مثل هذا الوضوح من حبر جليل مثله.

كتب المطران بيتسابالا: "إن هناك أمورًا ليست كلها على ما يرام. في الواقع كانت أخطاء أثّرت في حياة البطريركية من الناحية المالية والإدارية، ولا سيما في ما يختص بالجامعة الأمريكية في مادبا، وأخفقنا في بعض المجالات المهمة". مما لا شك فيه أن أزمة جامعة مادبا قد أنزلت البعض عن عروشهم، إمّا بسبب التواطؤ المباشر في الموضوع، أمّا آخرون فكانوا مجرد ضحايا للواقع الأليم. وإذا ما عدنا إلى الوراء فأتذكر وجود جيش من المستشارين الإداريين والماليين في داخل أسوار البطريركية اللاتينية، وهؤلاء كانوا يعملون بجد لوضع استراتيجيات لصمود الشعب الفلسطيني بشكل عام. فكيف كان هؤلاء يخططون؟ وهل تعلّمت البطريركية اللاتينية من تلك الأخطاء القاتلة؟ لكن هذا قد أصبح الآن من الماضي البعيد، واليوم يبدأ مشوار جديد وحقبة جديدة من العلاقات ما بين رجال الاكليروس فيما بينهم من جهة، ومن الجهة الأخرى بين هؤلاء والفعاليات الرعوية المختلفة.

لقد تفاجئنا يوم إعلان استقالة المطران مارون لحاّم، أمّا خبر تعيين المطران الشوملي في عمان فوقع علينا كالخبر الصاعق، فكيف لي أن أرى الدار البطريركية في القدس من دونه! وأعتقد أن كلاهما قد قاما بما لا يرغبان به على صعيدهما الشخصي. أدرك تماماً أن الكهنة هم كالجنود فتراهم يذهبون أينما يريد رؤساءهم، فهم ينذرون الطاعة لرؤسائهم مهما كانت المواقف والظروف، وما يهم في النهاية هو الخير العام وليس الخاص. أمّا المطران بيتسابالا فكان واضحاً في أن المشكلة الرئيسة تكمن في رجال الاكليروس، وهذا جاء على لسان أحد الكهنة وكما تكتب الرسالة: "جاء الزمن لنعترف بمسؤوليتنا، كل واحد منا، ولنلزم أنفسنا ببداية جديدة". المدبر الرسولي قام بالرد على هذا الكلام، داعياً الجميع إلى لقاء كبير، فجمعهم كما تجمع الدجاجة فراخها. اجتمع الاكليروس البطريركي في الفحيص يومي 27 و 28 شباط الماضي، بهدف أن يصغي كلٌ إلى أخيه. أمّا في الأيام القليلة الماضية فقد عُقدت في بيت لحم رياضةٌ روحية لكهنة فلسطين بهدف الصلاة الجماعية لطلب معونة الله الخالق وشفاعة والدة الإله لتخطي الأزمات الراهنة ككل.

أعتقد أن العنوان الأبرز والعريض ومستقبل البطريركية اللاتينية المقدسية في المرحلة القادمة جاء في رسالة المدبر الرسولي حين كتب: "قد لا نكون أكدّنا بما فيه الكفاية على تحديد الأولويات في رسالتنا، أي التبشير بالإنجيل وتكريس أنفسنا للنشاطات الرعوية". ما أراه في الوقت الحاضر هو أن كنائسنا ومؤسساتنا المختلفة لم تعد قادرة لتكون نوراً وملحاً وخميرةً للمجتمع. فمن الآن وصاعداً فإن الكاهن عليه أن يكرّس نفسه لإدارة النفوس والصلاة وأن يكون بجانب المريض والضغيف... وهنا لا بد للعلمانيين المؤمنين الشرفاء أن يلعبوا دورهم الإيجابي والشفّاف في سبيل دعم جهود الاكليروس من خلال إدارة المؤسسات الكنسية المختلفة، وليحاسب كل من يعمل على هدر أموال الناس والكنيسة. وعلى العلمانيين المتسلقين، ومثل هؤلاء أراهم بيننا، عليهم التنحي خارجاً ليعطوا المجال لآخرين للعمل الكنسي فالوقت يمضي والصعوبات تزداد. غير أن المطران بيتسابالا لم يذكر أي شيئ عن رؤيته المستقبلية بالنسبة لدور العلمانيين في الكنيسة المحلية، لكني أعتقد أنه سيعالج هذا الموضوع في المستقبل القريب.

ينهي المطران بيتسابالا الرسالة بأسلوب إيجابي ومنفتح على مستقبل مشرق، فأراه يرى النور في نهاية ذلك النفق الطويل المظلم. فكتب أنها ليست المرة الأولى التي تتعرض لها كنيسة الأرض المقدسة للمشاكل الجدية، لكنه لمس روحاً إيجابية لدى كهنته وأساقفته للوقوف معاً في سبيل رد الاعتبار للكنيسة اللاتينية في القدس. ورد الاعتبار يأتي بالنسبة للمدبر الرسولي أولاً بالتوبة والاعتراف بالخطأ أو الأخطاء السابقة. إن الكنائس في المشرق العربي قاطبةً ومن دون استثناء تمر بنفس الظروف الصعبة على الصعيدين الداخلي والخارجي. فالتاريخ قد أنهكها والحروب قد أرهقتها ومستقبل المسيحيين يؤنبها. لكننا لا يجب أن ننسى وصية المخلص لنا وهي أن نبقى واثقين به ومؤمنين بالكنيسة التي هو مدبرها الأول، وشاهدين له أمام الجميع وفي الصعاب خصوصاً. ولنتحلى بالإيمان والشجاعة لنعود لنكون نوراً وملحاً للذين من حولنا لنبلغ جميعاً مجد القيامة.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا
التعليق على مسؤولية المعلق فقط وهو ليس بالضرورة رأي الموقع
1. كمال دعيبس 10 مارس 2017 - 23:46 بتوقيت القدس
اوافق اوافق
هي بداية صادقة لتصحيح المسار ، ان نعترف باخطائنا هو اول مراحل تشخيص الخلل على ان نبدأ بالعلاج الذي يتطلب قرارات صعبة ، اولها ان يقتنع احبتنا الكهنة وسائر الاكليروس بانهم مكرسين للعمل الرعوي والكنسي اولاً وهم ليس خبراء في الصناعة والتجارة والاقتصاد والعقارات ، فقد اثبتت التجربة ان الاخطاء الكبيرة التي اوصلت البطريركية الى ما هو عليه كان سببها التفرد باتخاذ قرارات مصيرية ممن لا يمتلكون ادنى خبرة حول ما يقررون به ، و ان يتم استبعاد المتسلقين من المحيطين والمدعين بالاخلاص للكنيسة والكهنة ، ولا اعتقد ان تحديد من هم صعباً ، كل ذلك دون ان نقلل من اهمية ان يساهم المؤمنين من العلمانيين في تشكيل رافعة صادقة وداعمة للاكليروس لتجاوز هذه المرحلة الخطيرة التي ان استفحلت لا سمح الله لن تستثني فينا احداً من الضرر الذي يصعب اصلاحه فيما بعد .