أرفع عيني إلى الجبال... العين المحدقة في غير المنظور

إنه حوار بين الإنسان ونفسه: "أرفع عيني إلى الجبال.. ترى من أين يأتي عوني؟ " . إنه حوار النفس، وما أكثر المرات التي نجري فيها حواراً مع أنفسنا عبر رحلة الحياة، وعندما ننظر إلى ثقل المسؤوليات وإلى...
08 نوفمبر 2016 - 00:16 بتوقيت القدس

جبال عالية

يبدأ كاتب المزمور 121 بتساؤل كأنه مرثاة، تعبر عن حالة من عدم الإستقرار والخوف، والقلق، بشأن متغيرات الحياة، (بالأصل: أأرفع عينيّ إلى الجبال؟) لكننا نجده يعرض هذه المتغيرات في ضوء إيمانه بالله الذي يحفظه، الذي كتب هذا المزمور ليس هو النبي داود، فالكاتب لم يذكر اسمه، ويعتقد البعض أنه حزقيا، والذي كان الملك الخامس عشر ليهوذا، المملكة الجنوبية، وكانت له علاقة شخصية متنامية مع الله.

إنه حوار بين الإنسان ونفسه: "أرفع عيني إلى الجبال.. ترى من أين يأتي عوني؟ " . إنه حوار النفس، وما أكثر المرات التي نجري فيها حواراً مع أنفسنا عبر رحلة الحياة، وعندما ننظر إلى ثقل المسؤوليات وإلى مخاطر ومخاوف الطريق.. نرفع عيوننا إلى أعلى ونقول: ترى من أين يأتي عوننا؟ هل نستطيع؟ هل يمكن أن نستكمل المسيرة؟ هل ننجح في إنجاز الأهداف التي وضعناها أمام عيوننا؟ من أين يأتي العون.. إنه الحوار مع النفس.

والسؤال: لماذا ينظر المرنم إلى الجبال ويتساءل من أين يأتي العون؟ هل ذلك تعبير عن حالة الخوف والقلق وعدم الإستقرار، أم تعبير عن عدم الإحساس بالأمان في ظل مصادر الدعم البشرية التي تمثلها الجبال هنا؟ هل الجبال مصدر تهديد أم مصدر سلام؟

بغض النظر عن هذا أو ذاك نجد أن الإجابة تأتي سريعاً: " معونتي من عند الرب صانع السماوات والأرض".

إن المرنم بهذه الكلمات ينظر إلى ما وراء الجبال والكون. إنه يتخطى المنظور ليرى الله خلف جبال الصعوبات. إنه صاحب ورفيق الرحلة ومصدر القوة والمعونة والإمداد.  إن المرنم يريد أن يقول: لا تضعوا قلوبكم على الخليقة ولا تتكلوا عليها، بل وجهوا أنظاركم إلى السيد الخالق فهو لا يمكن أن يتخلى عن عمل يديه.

 هل هناك قوة مجهولة أوجدت هذا الكون؟ أم أن هناك خالق أوجد الكون وخلقه ثم تركه لنواميسه الطبيعية وهو الآن لا علاقة له به كما يؤمن أصحاب بعض المذاهب الفكرية والفلسفية كالربوبية (تعريب لكلمة بالإنجليزية: Deism) وغيرها. أم أن هناك خالق لهذا الكون مازال يحميه ويرعاه في كل يوم كما تعلن المسيحية؟

في هذا المزمور نرى اختبارات مؤمن، في وسط التجارب وجد في الرب عوناً له، ونبعاً متدفقاً لا يتوقف.

هذا الإنسان، وجد نفسه في مواجهة مع صعوبات وتجارب الحياة، وتيقن أنه في ذاته ليست لديه قوة لمواجهة هذه الظروف. إنه يحتاج إلى "عون". وأكبر مصدر للشعور بالضعف أمام التجربة غالباً ما يكون في الثقة بالذات التي تقودنا أن نواجه التجربة بقوتنا الخاصة أو بحكمتنا. لكن الحقيقة أنه ليست لدينا قوة في أنفسنا. وفي كل خطوة نحتاج من يعيننا ليسندنا في التجربة ويحملنا في الظروف الصعبة.

وإذ يتحقق المرنم من احتياجه للعون، يثور في نفسه للتو هذا التساؤل: "من أين يأتي العون؟". إنه محاط بجبال تبدو قوية وراسخة لا تتزعزع. كما يجد في هذا العالم أناساً أقوياء لا يقدر عدو أن يسلبهم. ولكن هل لنا أن نثق في أي مخلوق؟ يخبرنا إرميا النبي: "حقاً باطلة هي (أو بالحري باطل هو انتظار الخلاص من) الآكام، (و) ثروة (أو كثرة) الجبال. حقاً بالرب إلهنا خلاص إسرائيل" (ار 3: 23). وإذ تحقق عوزه للعون، وأن العون من البشر باطل، فإن الرجل التقي يتحول من المخلوق إلى الخالق، وهكذا يقول: "معونتي من عند الرب صانع السماوات والأرض".

إنه لم يردد كلاماً كحقيقة عامة أن الرب يعطي عوناً، ولكن في إيمان شخصي بسيط يقول: "معونتي من عند الرب".

وفي الأعداد التالية للمزمور نجد أن روح الله يجيب على هذا الإيمان البسيط إذ يُعلن لنا البركات المعطاة لمن ينتظر الرب كعون له. والفكرة المكررة في هذه الأعداد هي العناية الدائمة من الرب. وصفة هذا المزمور تتلخص في كلمة "يحفظ" التي تتكرر ست مرات:

1.أرفع عيني إلى الجبال، من حيث يأتي عوني!
2.معونتي من عند الرب، صانع السماوات والأرض.
3.لا يدع رجلك تزل. لا ينعس حافظك.
4.إنه لا ينعس ولاينام حافظ اسرائيل.
5.الرب حافظك. الرب ظل لك عن يدك اليمنى.
6.لا تضربك الشمس في النهار، ولا القمر في الليل.
7.الرب يحفظك من كل شر يحفظ نفسك.
8.الرب يحفظ خروجك ودخولك من الآن وإلى الدهر.

من جيل إلى جيل أمدت كلمات هذا المزمور شعب الله بعون كبير وثقة في وقت الأزمات، وكانت هذه الكلمات إلهاماً دائماً في حياة القديسين، ويمكنها أن تكون كذلك لنا اليوم.

فهو"أرجل أتقيائه يحرس" (1صم2: 9). وإن سرت في وادي الآلام.. ثقتي فيه بلا حدود. حارسي لا ينعس.. لا ينام.. وعني دوماً سيذود، الرب ظل لك (هل يستطيع أحد أن ينفصل عن ظله؟) الرب يحفظك من الشر المادي المحيط بك: الشمس والقمر، ويحفظ نفسك ومعنوياتك وإنسانك الداخلي فلا تخور ولا تنهار. إنه يجعلك فوق الظروف والأحداث، وحتى في وقت هزيمتنا لا نخور ولا نستسلم، بل نصمد بمعونته ونكمل حياتنا في ظل هذه المعونة. الرب يحفظنا خلال أنشطتنا اليومية. وهذه العبارة "خروجك ودخولك" تعني:
الرب يحفظك من بداية اليوم (خروجك) إلى نهايته (دخولك مرة أخرى إلى بيتك)، لكن يمكن أن نقول أيضاً: الرب يحفظك خلال رحلة العمر كله حتى لحظة خروجك من العالم ودخولك للأبدية.

والمؤمن الذي يتطلع إلى الرب كمعينه سيُحفظ من كل شر. وفي الوقت الذي يصبح فيه العالم مثل أيام نوح الذي يتسم بازدياد الشر والفساد، المسيحي الذي بورك بكل بركة روحية في السمويات، سيواجه مقاومة من أجناد الشر الروحية في السمويات، التي تعمل من خلف المنظور. ومع ذلك، فإن التطلع إلى الرب يجعل المؤمن في "شدة قوته"- أي قوة المسيح- فيصبح قادراً أن يقف أمام مقاومة العدو في "اليوم الشرير"، ولهذا يصبح محفوظاً من الشر (أف6: 10- 13).

 كمؤمنين مولودين من الله ونحن في رحلة الحياة يمكننا أن نستمتع بملىء اليقين والإيمان أن الله سيحفظنا.. إنه يحفظ سلامتنا طوال الرحلة، وهو الضامن لها منذ البداية: منذ قبولنا للمسيح وبداية سياحتنا، وحتى النهاية حينما نصل بسلام إلى بيتنا الأبدي.

ليتنا نُدْرِك عِظَم النعمة والمعونة التي تُحيط بنا، وليتنا نُدْرِك النُصرة المذخرة لنا في المسيح والتي تترقَّب صرخات قلوبنا لتستحضِر قوة الله فيها، حينها فقط لن يخيفنا شيء لأن أبصارنا ستظل مُعَلَّقة بالسماء، تترجَّى المعونة وتبتهج بها.

شارك المقالة:
هل لديك سؤال عن الإيمان المسيحي؟ نحن مستعدون لاجابتك راسلنا