بعدما قرأت مقالة القس حنا كتناشو بعنوان: "يوم النكبة وأتباع المسيح"، والكثير من الردود التي أشكر إلهي على كشفها، لأنها لم تأتي بالصدفة. لكن الله قصد أن يكشفها لنا لكي يجعلنا ندرك ككنيسة في البلاد كم من الصراعات والمشاكل والجراحات عندنا، التي تحتاج ليد الرب الشافية.
أشعر بمسئولية أمام الرب بأن أقدم للكنيسة في البلاد ثلاثة تحذيرات لما لمسته من خلال قراءتي للكثير من الردود على المقالة، وهي كالآتي:
أولا: الحذر من الحق المنحاز
وهو عندما تنتقي الكنيسة أحداث تظهر من خلالها الحق، وتتغاضى عن أحداث مشابهة تمامًا، تختار أن لا تُعلن الحق فيها.
من الرائع أن تقف الكنيسة وقفة حق، هذا ما يدعونا إليه الرب، وكما قال الأخ ديفيد، في مقالته "دعوة للمحبة في يوم النكبة "، يجب أن تكون المحبة الإلهية سائدة على الحق الذي ينعكس في ردود أفعالنا. لكن المحبة المنحازة هي ليست محبة، لأنها تقدم حق منحاز، وهو ليس حقًا. فعندما تأتي النكبة نقدم استنكاراتنا ووقفتنا المستنكرة وتمسكنا الصارم بالحق، أما عندما يأتي موعد المحرقة مثلاً لا نتحرك لنواسي ونعزي أخوتنا اليهود على هذا الحدث التاريخي المؤسف. عندما يتعذب شبابنا في السجون الإسرائيلية نعبر عن استنكارنا ونأخذ وقفة "حق" صارمة تجاه هذا، وعندما تعذب حماس معتقلين من فتح في سجون غزة، أو عندما تعذب فتح معتقلين من حماس في سجون الضفة، يكون الحق في موقف الكنيسة نائمًا. عندما يشرع قس أمريكي مجنون لحرق مصحف، نقدم استنكارنا ونعلن "الحق"، لنعبر عن محبتنا وتضامننا مع أخوتنا المسلمين (أتمنى أن يكون هذا الشعور حقيقي)، لكن عندما تحرق السلطة الفلسطينية الكتاب المقدس بمنهاجها للتربية الإسلامية سنة بعد سنة، بعملية حرق منظمة، لتعليم شبابنا الفلسطيني المسلم إن الكتاب المقدس محرف ومؤلف، يأخذ الحق غفوة في الكنيسة ونختار أن نصمت. عندما تُقصف كنيسة في العراق نقدم استيائنا وحزننا وتصريحاتنا الجارحة، وعندما يموت المئات من الشيعة في العراق لا نبالي، أليس هؤلاء مخلوقين على صورة الله، والله يحبهم مثلنا؟
أتسائل هل نريد أن نقف وقفة حق فِعلا؟ وهل المحبة المنحازة تستطيع أن تعرف الحق؟ لا أعتقد!! ربما تستطيع أن تلبس قناع الحق لكي تبث من خلاله المرارة وعدم الغفران والكراهية أحيانًا.
ونرى هذا دائمًأ في كنائسنا، الأخ "أ" لا يحب الأخ "ب"، فعندما يعمل الأخ "ب" شيء خطأ، فيصبح الأخ "أ" بطل الحق، ويوبخ الأخ "ب" بشدة، ويؤكد بأن الله دعانا لأن لا نسكت على الخطأ. مع العلم أن الأخ "ج" عمل نفس الشيء أمام الأخ "أ" ولم يلكمه بشيء. هل يريد الأخ "أ" الحق فعلاً؟ أم يريد أن يلبس قناع الحق ويجعله أداة لكي يبث من خلاله مرارته تجاه الأخ "ب"؟
يوجد فرق شاسع بين كنيسة تعيش الحق وتعلنه، وكنيسة تلبس قناع الحق بحسب استحكاك آذان السامعين... من له آذان للسمع فليسمع.
الثاني: الحذر من الحكم بين طرفين
وهي أن نضع أنفسنا كقضاة لنحكم بين طرفين، أو شعبين متنازعين.
لقد واجه المسيح حادثًا فيه شعر رجل أن أخاه ظلمه من حقة في المراث، وعلى الأرجح شمل مراثه أرض أو بيت، وطلب من المسيح قائلاً:
" 13 ... يَا مُعَلِّمُ، قُلْ لأَخِي أَنْ يُقَاسِمَنِي الْمِيرَاثَ." 13 "فَقَالَ لَهُ: «يَا إِنْسَانُ، مَنْ أَقَامَنِي عَلَيْكُمَا قَاضِيًا أَوْ مُقَسِّمًا؟" لوقا 12.
فالمسيح رفض أن يضع نفسه في موقف القاضي بين خصمين، بالرغم من أنه الوحيد الذي له السلطان لأن يدين، والقضية بسيطة وهي خلاف بين إثنين فقط. فكم بالحري الحكم بين شعبين في أعقد قضية ظهرت في القرن العشرين. بين شعبين عددهم بالملايين، اشتركت فيها جميع دول العالم (الأمم المتحدة)، وجيوش كثيرة مثل: إسرائيل وبريطانيا، وجيش الأنقاذ العربي الذي شمل: فلسطين، الأردن، سوريا، العراق، مصر، لبنان، وأيضًا دول أخرى كثيرة متورطة بشكل مباشر وغير مباشر في قضية متشابكة ومعقدة. فالحكم البشري كما قلت في النقطة الأولى دائمًا يميل إلى الانحياز لقضية وشريحة معينة من النكبة (مثل التهجير وفقدان الأرض)، ويتجاهل الكثير من الشرائح الأخرى؛ على خلاف الله الذي يرى جميع الجوانب ويعرف كل شيء. ولماذا يجب أن يبدأ تاريخ ألمنا فقط من قبل 63 عام فقط، لماذا لا نشعر بألم الناس الذين عاشوا في فلسطين قبل 100 عام، أو 200 عام، أو 1400 عام. فنصل إلى قضية معقدة نقول للرب فيها: "أنت وحدك الذي تعلم الحق، أحفطنا يا رب من الجلوس على كرسي القضاء ولتكن مشيئتك".
التحذير الثالث: الانجراف من تيارين
وهو الانجراف من تيار التعصب الديني، والتيار الوطنية السياسي، وهاذان واجههما يسوع في خدمته:
" 15 حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. 16 فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. 17 فَقُلْ لَنَا مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟" متى 22.
لقد أرادو أن يجيب المسيح إما أن لا ندفع الجزية، وهو تيار التعصب الديني الذي يؤكد على "الحق" (الجزئي طبعًا)، وهو مُلك وسلطان الله للأرض ولشعبه، ويتغاضى تمامًا عن الوضع السياسي الذي سمح الله أن نكون فيه. والثاني هو أن يجيب المسيح بنعم، وبالتالي يقع في فخ التيارات السياسية والاتهامات بالعمالة للاحتلال والتي ممكن أن تأخذ المؤمن إلى الكثير من الاتجاهات والآراء والمماحكات البعيدة عن إرادة الله. وأما موقف المسيح فكان:
" 18 فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ 19 أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ». فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَاراً. 20 فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» 21 قَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ». 22 فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا."
في الواقع، أراد الشيطان أن يجرب المسيح من خلال هاذان التياران، وأما المسيح فعلم خبثه ولم ينصاع إلى أيٍ منهما. لقد شعرت من ردود الأخوة أن البعض لا يدركون خبث إبليس، وهاذان التياران اللذان يحاول من خلالهما بأن يجرف أولاد الرب وكنيسته إلى الواحد أو الآخر أو الإثنين معًا.
فكيف تصرف المسيح تجاه هاذان التياران؟
عندما ندرس رد يسوع لهم: " لِمَنْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟" "فقالوا لقيصر". نستنتج أن يسوع كأنه يقول لهم: هل تدركون أين تعيشون؟ أنكم تعيشون تحت الدولة الرومانية. هل تستطيعون أن تروا يد الله في الوضع السياسي؟ دعوة لنكون كنيسة مدركة وراضية وشاكرة في الوضع السياسي الذي نعيش فيه، والأرض التي نخدم الرب فيها. بعدها قال لهم: " أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ". وهي أن نتمم مشيئة الله ودعوتة لنا في الوضع السياسي الذي نعيش فيه (التي تشمل إعلان الحق، غير المنحاز طبعًا)، مع الحفاظ مواطنتنا الصالحة في الدولة التي غرسنا الرب فيها، ببساطة المسيح وبدون أي تعقيد.
صلاتي هي أن نكون كنيسة تعيش الحق وتعلنه بشكل غير منحاز لأي شعب أو طائفة، ولا تنتقي شرائح من الحق بحسب الاستحسان البشري. أيضًا أن يحفظنا الله من الجلوس على كرسي القضاء للحكم بين أطراف متنازعة، لكن لكي نحب الجميع ونفرح مع الفرحين ونبكي مع الباكين، بغض النظر عن خلفياتهم. كذلك أن ندرك خبث إبليس ولا ننجرف من تيار التعصب الديني والسياسي، بل أن نكون كنيسة تعيش في الواقع السياسي بكل شكر، وتتمم إرادة الله في وسط الوضع السياسي الذي أوجدنا فيه.