المحبة هي ليست صفة من صفات الله فحسب، هي الله بذاته. يقول الوحي من خلال بولس الرسول:
" 1 إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ. 2 وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً. 3 وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً." 1 كورنثوس 13.
أي أنه يقول في العدد 1، بلا محبة أنا فارغ، والعدد 2، بلا محبة أنا لا شيء، والعدد 3، بلا محبة لن أحقق شيء. لكن الأعجب من هذا، هو أن الأوصاف التي يقدمها بولس هنا هي أوصاف مؤمن كامل الصفات، وإذا عرضاها وفكرنا بها سنستغرب من هذا الطرح الصارم لهذا المؤمن كامل الصفات الخالي من المحبة. إنه يتكلم عن إنسان له موهبة ألسنة الناس والملائكة، له موهبة النبوة ويعرف كل الأسرار، وكل المعرفة والعلم، وعنده أيضًا الإيمان حتى ينقل الجبال، وأيضًا ضحى بجميع أمواله وحتى ضحى بنفسه بأصعب ميتة ممكن أن نتخليها - الحرق.
لماذا يركز الوحي هنا على المحبة بهذا الشكل القوي؟
لأن الله محبة (1 يوحنا 4: 8 و16)، فالمحبة هي جانب من جوانب الذات الإلهية، وليست صفة إلهية فحسب. أي كأننا نستطيع أن نعوض في الآيات السابقة مكان كلمة " محبة"، كلمة "الله". كأن الوحي يقول، بدون الله أو المسيح: أنا فارغ، أنا لا شيء، وسوف لا أحقق شيء. فالمحبة هي ليست موهبة المواهب كما يسميها البعض، لذلك يستخدم بولس الضمير البشري عندما يتكلم عن المحبة قائلا: "اتبعوا المحبة" (1 كورنثوس 14: 1)، ولا يقول جدُوا للمحبة كما في المواهب الأخرى، وكأنه يتكلم عن تبعية إنسان، نعم المحبة هي الله بذاته ومن يتبع الله يتبع المحبة. وكلمة "اتبعوا" في الآية السابقة، مشتقة من الفعل "ذِيوكو"، وردت 45 مرة في العهد الجديد، 14 مرة منها أتت بمعنى يتبع، يسعى، و 31 مرة بمعنى يضطهد. أي أن الوحي الإلهي هنا، بفعل الأمر هذا، يدعونا لنتبع المحبة بإصرار، بشدة، وبلا هوادة.
كذلك أيضًا يوحنا الحبيب ركز بنفس المقدار على المحبة، فهو يلخص الإيمان المسيحي ويقدمه بوصية واحدة لها وجهان لا ينفصلان إطلاقًا، فيقول:
" 23 وَهَذِهِ هِيَ وَصِيَّتُهُ: أَنْ نُؤْمِنَ بِاسْمِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً كَمَا أَعْطَانَا وَصِيَّةً." 1 يوحنا 3.
أن نؤمن بالمسيح، وأن نحب بعضنا بعضًا.
هل قضية المحبة مهمة جدًا لدرجة أنْ توضع مقابل الإيمان بالمسيح؟
نعم إنها في تلك الأهمية تمامًا ومرادفة للإيمان بالمسيح، لذلك قد استخدم الوحي، من خلال يوحنا الحبيب في رسالته الأولى، لغة في غاية الصعوبة للذي لا يحب أخاه قائلا:
• من لا يُحب أخاه لا زال في الظلمة. 1 يوحنا 2: 9
• من لا يحب أخاه يكون كأولاد إبليس. 1 يوحنا 3: 10
• من لا يحب أخاه يبقى في الموت. 1 يوحنا 3: 14
• من لا يُحب أخاه هو قاتل نفس (مثل قايين). 1 يوحنا 3: 15
• من لا يُحب أخاه لم يعرف الله لأن الله محبة. 1 يوحنا 4: 8
• من لا يحب أخاه لا يحب الله. 1 يوحنا 4: 20
وأمام 1 كورنثوس 13 وهذه الجولة من رسالة يوحنا الأولى، تثار في ذهني بعض الأسئلة. ربما أشعر أني لا أتجرَّأ أن اسألها، لكني سأسألها لمجد الله.
لما كل هذا التعقيد؟
لما يا رب تحب أن تصعب الأمور بهذا الشكل؟
ولماذا هذا التركيز على قضية المحبة؟
وماذا يقصد الوحي بعبارة: " ليست لي محبة "، أو " من لا يحب أخاه " ؟
لقد أخذني البحث عن جواب هذه الأسئلة سنتين ونصف، وسأقدمه لكم من خلال هذه السلسلة والتي ستشمل أيضًا ستة تأملات قادمة من رسالة يوحنا الأولى.