يعيش مسيحيو غزة اليوم بين خيارين أحلاهما مرّ: البقاء في أرض حملت إيمانهم منذ القرون الأولى للمسيحية، أو الرحيل بحثًا عن أمانٍ مفقود ومستقبلٍ لأبنائهم خارج قطاع محاصر ومهدّم. وبين هذا وذاك، تتآكل واحدة من أقدم الجماعات المسيحية في العالم، وسط حرب طويلة أنهكت الحجر والبشر معًا.
يقدَّر عدد المسيحيين في غزة اليوم ببضع مئات فقط، بعد أن كانوا بالآلاف قبل عقود. فقبل الحرب الأخيرة كان الحديث يدور حول نحو ألف مسيحي في القطاع، معظمهم من الروم الأرثوذكس، مع جماعة كاثوليكية لاتينية صغيرة وأقلية إنجيلية.
تتركّز حياتهم حول ثلاث كنائس رئيسية في مدينة غزة: كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس، كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية، وكنيسة الإنجيل المعمدانية، إضافة إلى كنيسة أنجليكانية في مستشفى الأهلي العربي. هذه الكنائس ليست مجرد دور عبادة، بل مدارس ومراكز اجتماعية ومساحات خدمة تُفتح للجميع، مسيحيين ومسلمين على حد سواء.
لكن منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023، تحوّلت هذه الكنائس إلى ملاجئ مكتظّة للنازحين، قبل أن تصبح هي نفسها هدفًا للقصف أحيانًا. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2023، أصاب قصف إسرائيلي مجمّع كنيسة القديس برفيريوس، ما أدّى إلى مقتل وإصابة عدد من المدنيين الذين احتموا داخلها.
وفي 17 تموز/يوليو 2025، تعرّضت كنيسة العائلة المقدسة لضربة أخرى أدت إلى مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة آخرين، بينهم كاهن الرعية الأب جبرائيل رومانيلّي، في حادثة أثارت صدمة واسعة لدى الكنيسة في الأرض المقدسة وحول العالم.
تقارير كنسية وحقوقية تشير إلى أن عشرات المسيحيين قُتلوا منذ بداية الحرب، إما مباشرة بفعل القصف أو بسبب الظروف الإنسانية القاسية: نقص الدواء والغذاء، وانقطاع العلاج لمرضى السرطان والقلب وكبار السن. لجنة شؤون الكنائس الفلسطينية تحدثت في أيلول/سبتمبر 2025 عن مقتل 44 مسيحيًا في غزة منذ بدء الهجوم، فيما قدّرت تقارير أخرى أن ما بين 5 إلى 6 بالمئة من مجمل الجماعة المسيحية الصغيرة في القطاع فقدوا حياتهم، وهي نسبة صادمة إذا ما قورنت بحجمهم الضئيل أصلًا.
داخل أسوار كنيسة العائلة المقدسة وكنيسة القديس برفيريوس يعيش اليوم مئات النازحين في ظروف أقرب إلى الحصار داخل الحصار: قاعات مكتظة، أفرشة على الأرض، طوابير على مرحاض واحد، وغذاء شحيح يصل عبر قوافل محدودة، فيما تهدد الأمراض المعدية الأطفال وكبار السن.
ومع ذلك، يصرّ كثيرون من المسيحيين على البقاء قريبين من كنائسهم، لأنها في نظرهم آخر ما تبقى من هوية جماعية مهددة بالاندثار.
من جهة أخرى، تتحدث تقارير كنسية عن تراجع أعداد مسيحيي غزة خلال عام واحد من نحو ألف شخص إلى ما يقارب 650، مع مغادرة من استطاع الخروج إلى الضفة الغربية أو الأردن أو دول أخرى.
هذا النزيف الديمغرافي ليس جديدًا؛ فالهجرة المسيحية من غزة والضفة الغربية مستمرة منذ عقود بفعل الحروب، الحصار، والأزمة الاقتصادية، لكن الحرب الحالية جعلت السؤال الوجودي أكثر حدة: هل البقاء شهادة إيمان وصمود، أم مخاطرة غير مبرَّرة بحياة الأطفال والمسنّين؟
“الخيار المستحيل” الذي تحدّثت عنه مقالات وتحليلات كنسية غربية يعبّر عن هذا التمزّق بالذات. من يختار البقاء في غزة يتمسّك بجذور تمتد إلى القرون الأولى للمسيحية، ويؤمن أن الكنيسة مدعوّة إلى أن تبقى نورًا وإن كان خافتًا في وسط ظلمة الحرب.
هؤلاء يرون أن رحيلهم يعني عمليًا نهاية حضور مسيحي تاريخي في القطاع، وتحويل كنائسهم إلى حجارة بلا شعب. في المقابل، من يختار الرحيل يرى أنه لا يستطيع التضحية بأمن وعافية أبنائه في ظل واقع يبدو بلا أفق سياسي أو إنساني، ولا ضمانات حقيقية لعدم تكرار المأساة مرارًا.
الكنائس المحلية في القدس ورام الله وعمان وبلدان أخرى تحاول مرافقة هذه الجماعة المجرَّحة بكل الوسائل الممكنة. البطريركية اللاتينية في القدس، على سبيل المثال، واصلت دعم رعية العائلة المقدسة ماديًا ومعنويًا، ونقلت معاناة أهل غزة إلى منابر دولية عديدة.
زيارات رؤساء الكنائس إلى غزة – ومن بينها الزيارة المشتركة النادرة للبطريرك اللاتيني والبطريرك اليوناني الأرثوذكسي إلى الكنيسة المتضررة – حملت رسالة واضحة مفادها أن دماء المسيحيين في غزة ليست “تفصيلاً ثانويًا” في صراع أكبر، بل جرح في قلب الكنيسة كلها.
على المستوى الدولي، شكّل تضامن البابا الراحل فرنسيس مع رعية غزة علامة خاصة، إذ واظب لوقت طويل على الاتّصال هاتفيًا برعية العائلة المقدسة والكاهن المسؤول عنها، سائلًا عن حاجاتهم اليومية ومشجّعًا إيّاهم على الصمود، قبل أن يتوقف هذا الصوت الأبوي بوفاته في نيسان/أبريل 2025.
هذا الحضور الروحي من روما، إلى جانب بيانات من مجالس كنائس ومنظمات مسيحية في أوروبا وأمريكا، كان بمثابة خيط رفيع يربط مسيحيي غزة بجسد كنسي أوسع، ويذكّرهم بأنهم ليسوا منسيّين بالكامل.
إلى جانب التضامن الروحي، ظهرت مبادرات عملية عديدة: حملات تبرّع لشراء الأدوية والمواد الغذائية، ضغوط كنسية ودبلوماسية لمطالبة المجتمع الدولي بحماية دور العبادة والمدنيين، ونداءات متكررة لوقف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية آمنة.
ومع ذلك، يبقى مردود هذه الجهود محدودًا أمام واقع حرب مفتوحة، وحدود مغلقة، وقرارات سياسية تصدر في عواصم بعيدة، بينما يدفع المدنيون – ومنهم هذه الأقلية المسيحية الصغيرة – الثمن الأكبر.
في النهاية، لا ينبغي التعامل مع سؤال بقاء مسيحيي غزة أو رحيلهم كخيار “صحيح” وآخر “خاطئ”. فالعائلات التي تتمسّك بالبقاء تستحق كل دعم واحترام، لأنها تحافظ على حضور إنجيلي عريق في أرضٍ زارها الرسل الأوائل، ولأن صمودها يمنع تحوّل القطاع إلى أرض بلا تنوّع ديني. والعائلات التي تختار المغادرة تستحق بدورها التفهّم والمساندة، لأنها غالبًا ما تقدّم هذا القرار كـ “تضحية” من أجل مستقبل أبنائها وتعليمهم وأمانهم.
ما يمكن للكنائس حول العالم أن تفعله اليوم هو ثلاثة أمور على الأقل: أولًا، ألّا تسمح بأن يُدفن صوت مسيحيي غزة تحت ركام الأخبار اليومية، بل تواصل نقل قصصهم ومعاناتهم إلى الرأي العام. ثانيًا، أن تضغط بلا كلل من أجل حماية المدنيين ودور العبادة ووقف الحرب، انسجامًا مع جوهر الإنجيل الذي يدعو إلى السلام العادل. وثالثًا، أن تترجم صلواتها إلى مبادرات ملموسة للدعم المادي والإنساني، حتى يشعر من بقي ومن رحل أن جسد المسيح الواحد لا يزال يحتضنهم، مهما ابتعدت المسافات وتشعّبت الخيارات.
بهذا المعنى، يبقى “الخيار المستحيل” الذي يواجهه مسيحيو غزة نداءً موجّهًا إلى الكنيسة الجامعة: إما أن ترافق هذا الجسد الجريح وتدافع عنه، أو تتركه يختفي بصمت من خريطة الشرق الأوسط.
