يتزايد الإجماع في التقارير الكنسية والحقوقية الدولية على حقيقة موجعة: المسيحيون اليوم هم أكثر الجماعات الدينية تعرّضًا للاضطهاد في العالم، فيما يبقى صراخهم في كثير من الأحيان بلا صدى يُذكر في دوائر السياسة والإعلام.
بحسب تعليق تحليلي حديث نشرته منصّة «GIS Reports» في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، يواجه أكثر من 340 مليون مسيحي حول العالم درجات خطيرة من الاضطهاد أو التمييز بسبب إيمانهم، في رقم يعكس اتّساع دائرة الاستهداف الجغرافي وتعدّد أنماط هذا الاضطهاد، من العنف الدموي المباشر وصولًا إلى التضييق القانوني والرمزي الخانق.
ويبدو هذا الرقم أكثر قتامة عند مقارنته بتقارير منظمة «أبواب مفتوحة» (Open Doors) في «قائمة المراقبة العالمية 2025»، إذ تشير إلى أن أكثر من 380 مليون مسيحي يعيشون تحت «مستويات عالية أو عالية جدًا من الاضطهاد والتمييز»، أي ما يقارب مسيحيًا واحدًا من كل سبعة في العالم، وواحدًا من كل خمسة مسيحيين في أفريقيا، وواحدًا من كل سبعة في آسيا.
في موازاة ذلك، يكشف تقرير «حرية الدين في العالم 2025» الصادر عن مؤسسة «عون الكنيسة المتألّمة» (ACN) أنّ ما يقرب من 5.4 مليارات إنسان – أي نحو ثلثي سكان العالم – يعيشون في دول تُسجَّل فيها انتهاكات «خطيرة أو خطيرة جدًا» لحرية الدين أو المعتقد، مع حضور لافت للمسيحيين ضمن الفئات الأكثر استهدافًا وملاحقة في عدد كبير من هذه الدول.
وراء هذه الأرقام القاسية قصص ملموسة لرجال ونساء وكنائس محلية تُجرَّب بالنار كل يوم. ففي نيجيريا وحدها، تُظهر تقارير حقوقية وأمنية أن أكثر من 7,000 مسيحي قُتلوا خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2025، فيما قُتل منذ عام 2009 ما لا يقل عن 52 ألف مسيحي، وتعرّض أكثر من 20 ألف كنيسة ومدرسة مسيحية لهجمات أو تدمير، كثير منها على أيدي جماعات إرهابية مثل «بوكو حرام» وتنظيمات متشدّدة متحالفة مع «داعش».
الصورة ليست أفضل بكثير في بلدان أفريقية أخرى مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث تتعرّض قرى مسيحية بأكملها لهجمات مروّعة، ولا في مناطق من الساحل الأفريقي وشرق القارّة، حيث يتحوّل الانتماء إلى المسيح في كثير من الأحيان إلى حكم بالتهجير أو الخطف أو الموت. تقارير «أبواب مفتوحة» تشير بوضوح إلى أن أفريقيا جنوب الصحراء أصبحت واحدة من أخطر مناطق العالم على حياة المؤمنين بالمسيح، مع تصاعد لافت في العنف الجماعي والهجمات على الكنائس.
في الشرق الأوسط، صورة الاضطهاد غالبًا أكثر تعقيدًا، لكنّ النتائج واحدة: نزيف مستمر لوجود مسيحي ضارب في جذور التاريخ. فخلال عقدين فقط، تقلّص عدد المسيحيين بشكل حاد في دول مثل العراق وسوريا، مع استمرار الضغوط الاجتماعية والأمنية التي تدفع كثيرين إلى الهجرة، إضافة إلى حوادث عنف متفرّقة واستهداف للكنائس أو قادة الكنيسة في أكثر من بلد، كما توثّقه تقارير دورية صادرة عن «عون الكنيسة المتألّمة» في دراسات مثل تقرير «مضطهدون ومنسيّون؟» الذي يغطي الفترة 2022–2024.
أمّا في آسيا، فيأخذ الاضطهاد أشكالًا متعدّدة؛ ففي بعض الدول، يُفرض على الكنائس التسجيل الصارم والمتابعة الأمنية اللصيقة، وتُمنع الأنشطة التبشيرية أو تُجرَّم عمليًا، وتُراقَب العظات والبرامج الرعوية. وفي دول أخرى، مثل بعض ولايات الهند، تُستخدم قوانين «مكافحة التحوّل الديني» لاعتقال مسيحيين أو تعطيل خدمات الكنيسة أو الاعتداء على المؤمنين تحت ذريعة «التحويل القسري»، في مناخ يتغذّى من خطاب قومي متشدّد. تقارير حقوقية كنسية تحذّر من «قفزة خطيرة» في العنف والكراهية ضد المسيحيين في شبه القارّة الهندية خلال السنوات الأخيرة.
حتى في البلدان التي تُعدّ تاريخيًا مهد الحرية الدينية، تسجّل الكنائس تزايدًا مقلقًا في ما يمكن وصفه بـ«الاضطهاد الناعم»: ازدياد جرائم الكراهية ضد الكنائس، وهجمات الحرق والتخريب، وضغوط ثقافية وقانونية تُضيّق هامش حضور الإيمان في الحياة العامة. تقرير أوروبي حديث أشار إلى أن الاعتداءات ذات الدافع الكاره للمسيحية ضد الكنائس ورموز الإيمان في القارّة تضاعفت تقريبًا في عام 2024، مع مئات حوادث الحرق والتدنيس وتخريب المزارات والتماثيل. وفي كندا، حذّر تقرير لمؤسسة «عون الكنيسة المتألّمة» من تآكل حرية الدين بأساليب «ناعمة» لكن مؤثّرة، من التشويه الإعلامي إلى التضييق على المؤسسات المسيحية في ميادين التربية والخدمة الاجتماعية.
أمام هذا المشهد العالمي، يحذّر الكاردينال بيترو بارولين، أمين سر دولة الفاتيكان، من أنّ العالم يواجه «موجة صاعدة من انتهاكات حرية الدين»، مشيرًا إلى أن التقرير الجديد لـ ACN هو الأكبر منذ بدء نشر هذه التقارير، وأن اتجاه الاضطهاد يسير صعودًا لا هبوطًا. لكنّ ما يلفت الانتباه في تعليق «GIS Reports» هو الإشارة إلى أن اضطهاد المسيحيين، رغم اتّساعه وخطورته، لا يزال يمرّ «بصمت شبه تام» في الساحة الدولية، وكأن العالم تعوّد على صور الكنائس المهدّمة والقرى المهجّرة، أو اختار تجاهلها لأسباب سياسية واقتصادية وحسابات نفوذ معقّدة.
بالنسبة للكنائس والمواقع المسيحية، لا تبقى هذه الأرقام مجرّد مادة إحصائية، بل تتحوّل إلى دعوة ملحّة للوعي والصلاة والعمل. فالكنيسة، جسد المسيح الواحد، مدعوّة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى:
- أن تُبقي قضية الإخوة المضطهَدين حاضرة في العظات، وفي الصلوات الليتورجية، وفي دروس التعليم المسيحي.
- أن تدعم، ضمن الإمكانات المتاحة، المنظمات الكنسية والإنسانية العاملة ميدانيًا مع ضحايا الاضطهاد، في نيجيريا والشرق الأوسط وآسيا وغيرها.
- أن ترفع الصوت في الفضاء العام دفاعًا عن حرية الدين كحق إنساني أساسي لكل إنسان، مسيحيًا كان أم غير مسيحي.
في زمن يُطالَب فيه المسيحيون بالصمت إزاء ما يتعرّضون له، يبقى واجب الإعلام المسيحي – ومنه موقعنا – أن يضع هذه الحقائق في الضوء، وأن يربط بين دموع القرى البعيدة ونبض رعايانا المحلية هنا، في الأرض المقدسة والشرق الأوسط، لنفهم أن ما يحدث هناك ليس شأنًا بعيدًا، بل جرحًا في قلب الكنيسة الواحدة الجامعة.
